65ـ مع الحبيب المصطفى: قال: أصبرني. قال: اصطبر

 

 مع الحبيب المصطفى صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم

65ـ قال: أصبرني. قال: اصطبر

مقدمة الكلمة:

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد:

فيا أيُّها الإخوةُ الكرام: من فَضلِ الله عزَّ وجلَّ على الأمَّةِ أنَّهُ أكمَلَ لهُم دِينَهُم، وأتَمَّ عليهِم نِعمَتَهُ، ورَضِيَ لهُمُ الإسلامَ دِيناً، قال تعالى: ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِيناً﴾.

ومن كَمالِ هذا الدِّينِ القِصاصُ، قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالأُنثَى بِالأُنثَى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاء إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيم * وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَاْ أُولِي الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُون﴾. وقال تعالى: ﴿وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالأَنفَ بِالأَنفِ وَالأُذُنَ بِالأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَن تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَّهُ وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أنزَلَ اللهُ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الظَّالِمُون﴾.

أيُّها الإخوة الكرام: عِندَما يَغضَبُ الإنسانُ ولا يَنضَبِطُ بِضَوابِطِ الشَّريعَةِ قد يَهُمُّ بإيذاءِ إنسانٍ بأن يَقتُلَهُ، أو أن يُنزِلَ به ضُرَّاً، فإذا تَذَكَّرَ أنَّهُ إن قَتَلَ أحَداً قُتِلَ به، أو أنزَلَ به ضُرَّاً أصابَهُ نَفسُ الضُّرِّ، كَفَّ عن الإيذاءِ من قَتلٍ وغَيرِهِ، وبذلكَ يَسلَمُ الذي يُريدُ إيذاءَهُ، ويَسلَمُ هوَ لأنَّهُ لم يَقتَصَّ منهُ.

ولا شَكَّ أنَّ هذا من أعدَلِ الطُّرُقِ وأقوَمِها، ولذلكَ يُشاهَدُ في أقطارِ الدُّنيا قَديماً وحَديثاً قِلَّةُ وُقوعِ القَتلِ في البِلادِ التي تَحكُمُ بِكتابِ الله عزَّ وجلَّ، وتُقيمُ حُدودَ الله تعالى، لأنَّ القِصاصَ رَدعٌ عن جَريمَةِ الإيذاءِ، وإلا كَثُرَ السُّفَهاءُ كما هوَ مُشاهَدٌ في البِلادِ التي تَحكُمُ بِغَيرِ ما أنزَلَ اللهُ تعالى.

فَقَالَ: أَصْبِرْنِي. َقَالَ: «اصْطَبِرْ»:

أيُّها الإخوة الكرام: لقد أمَرَ النَّبيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ بإقامَةِ الحُدودِ على العِبادِ، وأمَرَ بالقَوَدِ والقِصاصِ، وقد طَبَّقَ ذلكَ النَّبيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ تَطبيقاً لا مَثيلَ له.

روى أبو داود عَنْ أُسَيْدِ بْنِ حُضَيْرٍ رَضِيَ اللهُ عنهُ قَالَ: بَيْنَمَا هُوَ يُحَدِّثُ الْقَوْمَ وَكَانَ فِيهِ مِزَاحٌ، بَيْنَا يُضْحِكُهُمْ فَطَعَنَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ فِي خَاصِرَتِهِ بِعُودٍ.

فَقَالَ: أَصْبِرْنِي. أي: أقِدني.

فَقَالَ: «اصْطَبِرْ» أي: استَقِد.

قَالَ: إِنَّ عَلَيْكَ قَمِيصاً، وَلَيْسَ عَلَيَّ قَمِيصٌ.

فَرَفَعَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ عَنْ قَمِيصِهِ، فَاحْتَضَنَهُ وَجَعَلَ يُقَبِّلُ كَشْحَهُ. ـ هُوَ مَا بَيْنَ الْخَاصِرَةِ إِلَى الضِّلْعِ الْأَقْصَرِ مِن أَضْلَاعِ الْجَنْبِ ـ

قَالَ: إِنَّمَا أَرَدْتُ هَذَا يَا رَسُولَ الله.

«أقَتَلَكِ فُلانٌ؟»:

أيُّها الإخوة الكرام: بالعَدلِ قامَتِ السَّماواتُ والأرضُ، وفي القِصاصِ حَياةٌ، وإلا فالحَياةُ جَحيمٌ والعِياذُ بالله تعالى.

روى الشيخان عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللهُ عنهُ، أَنَّ يَهُودِيَّاً قَتَلَ جَارِيَةً ـ بنتاً صغيرَةً لم تَبلُغ الحُلُمَ ـ عَلَى أَوْضَاحٍ لَهَا ـ من أجلِ حُلِيٍّ لها من قِطَعِ فِضَّةٍ ـ فَقَتَلَهَا بِحَجَرٍ ـ أي: رَضَّها بينَ حَجَرَينِ ـ

قَالَ: فَجِيءَ بِهَا إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ وَبِهَا رَمَقٌ ـ بَقِيَّةُ حياةٍ ـ.

فَقَالَ لَهَا: «أَقَتَلَكِ فُلَانٌ؟» ـ ذَكَرَ لها غَيرَ القاتِلِ ـ.

فَأَشَارَتْ بِرَأْسِهَا أَنْ لَا.

ثُمَّ قَالَ لَهَا الثَّانِيَةَ، فَأَشَارَتْ بِرَأْسِهَا أَنْ لَا.

ثُمَّ سَأَلَهَا الثَّالِثَةَ فَقَالَتْ: نَعَمْ، وَأَشَارَتْ بِرَأْسِهَا. ـ يعني هوَ القاتِل ـ.

فَقَتَلَهُ رَسُولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ حَجَرَيْنِ.

«القِصاصَ القِصاصَ»:

أيُّها الإخوة الكرام: لقد كانَ سيِّدُنا رسولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ يُشيرُ على أهلِ الجاني أن يَلتَزِموا القِصاصَ، وأن يُوفوهُ لِمُستَحِقِّيهِ، ويُحَذِّرُهُم من إهمالِ القِصاصِ إلا أن يَعفُوَ أهلُ المَجنِيِّ عليه.

روى الإمام مسلم عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللهُ عنهُ، أَنَّ أُخْتَ الرُّبَيِّعِ أُمَّ حَارِثَةَ جَرَحَتْ إِنْسَاناً ـ أي: لَطَمَت جارِيَةً فَكَسَرَ ت سِنَّها ـ.

فَاخْتَصَمُوا إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ.

فَقَالَ رَسُولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «الْقِصَاصَ الْقِصَاصَ»

فَقَالَتْ أُمُّ الرَّبِيعِ: يَا رَسُولَ الله، أَيُقْتَصُّ مِنْ فُلَانَةَ؟ والله لَا يُقْتَصُّ مِنْهَا. ـ لقد حَلَفَت على ذلكَ ثِقَةً منها بِفَضلِ الله تعالى وتَعويلاً عليه في كَشفِ تِلكَ الكُربَةِ عنها، لا أنَّها رَدَّت حُكمَ الله تعالى وعانَدَتهُ ـ

فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «سُبْحَانَ الله يَا أُمَّ الرَّبِيعِ! الْقِصَاصُ كِتَابُ الله» يعني: تَنزيهاً لله تعالى أن يُرَدَّ حُكمُهُ، حيثُ قال: ﴿وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ﴾.

قَالَتْ: لَا والله لَا يُقْتَصُّ مِنْهَا أَبَداً.

يَقولُ الإمامُ النَّوَوِيُّ رَحِمَهُ اللهُ تعالى: لَيْسَ مَعْنَاهُ رَدَّ حُكْمِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، بَل الْمُرَادُ بِهِ الرَّغْبَةُ إِلَى مُسْتَحِقِّي الْقِصَاصِ أَنْ يَعْفُو وَإِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ فِي الشَّفَاعَةِ إِلَيْهِمْ فِي الْعَفْوِ، وَإِنَّمَا حَلَفَت ثِقَةً بِهِمْ أَلَّا يُحْنِثُوها، أَوْ ثِقَةً بِفَضْلِ الله وَلُطْفِهِ أَلَّا يُحْنِثهُ؛ بَلْ يُلْهِمهُمُ الْعَفْوَ.

قَالَ: فَمَا زَالَتْ حَتَّى قَبِلُوا الدِّيَةَ.

فَقَالَ رَسُولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ مِنْ عِبَادِ الله مَنْ لَوْ أَقْسَمَ عَلَى الله لَأَبَرَّهُ». يعني: لَجَعَلَهُ اللهُ سُبحانَهُ وتعالى بارَّاً صادِقاً فيما حَلَفَ عليهِ بِحُصولِهِ، أو بِعَدَمِهِ لِكَرامَتِهِ ومَنزِلَتِهِ عِندَ الله تعالى.

خاتِمَةٌ ـ نسألُ اللهَ تعالى حُسنَ الخاتِمَةِ ـ:

أيُّها الإخوة الكرام: القِصاصُ يَحقِنُ الدِّماءَ، ويُريحُ النُّفوسَ المَظلومَةَ، وهوَ حَياةٌ للأمَّةِ، كما قالَت العَرَبُ: القَتلُ أنفى للقَتلِ، والرَّاضي بالقِصاصِ هوَ المنتَصِرُ، وهوَ الرَّابِحُ في الدُّنيا والآخِرَةِ.

وأمَّا إذا تَعَطَّلَتِ الحُدودُ، ولم يُحكَم بما أنزَلَ اللهُ تعالى فالجاني هوَ الخاسِرُ دُنيا وأُخرى، لأنَّ اللهَ تعالى ليسَ بغافِلٍ عمَّا يَعمَلُ الظَّالِمونَ.

إذا تَعَطَّلَتِ الحُدودُ في الحَياةِ الدُّنيا ولم يأخُذِ المَظلومُ حَقَّهُ فيها، فإنَّ دارَ البَقاءِ تَنتَظِرُ الظَّالِمَ والمَظلومَ، ففيها يُقامُ العَدلُ، كما جاءَ في الحديثِ الشَّريفِ الذي رواه الإمام مسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عنهُ، أَنَّ رَسُولَ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لَتُؤَدُّنَّ الْحُقُوقَ إِلَى أَهْلِهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ، حَتَّى يُقَادَ لِلشَّاةِ الْجَلْحَاءِ مِن الشَّاةِ الْقَرْنَاءِ».

وها أنا أنصَحُ الأمَّةَ في زَمَنٍ تَعَطَّلَت فيه الحُدودُ، وأقولُ: يا عبادَ الله، لا تَغتَرُّوا بإمهالِ الله لكم، ولا تَغتَرُّوا بِتَعطيلِ الحُدودِ بأنَّكُم نَجَوتُم من القِصاصِ، فإن لم يُؤخَذِ الحَقُّ منكُم في الدُّنيا فسوفَ يُؤخَذُ منكُم في الآخِرَةِ، ولا تَنسَوا حديثَ سيِّدِنا رسولِ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ الذي رواه الترمذي عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عنهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «رَحِمَ اللهُ عَبْداً كَانَتْ لِأَخِيهِ عِنْدَهُ مَظْلَمَةٌ فِي عِرْضٍ أَوْ مَالٍ، فَجَاءَهُ فَاسْتَحَلَّهُ قَبْلَ أَنْ يُؤْخَذَ، وَلَيْسَ ثَمَّ دِينَارٌ وَلَا دِرْهَمٌ، فَإِنْ كَانَتْ لَهُ حَسَنَاتٌ أُخِذَ مِنْ حَسَنَاتِهِ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ لَهُ حَسَنَاتٌ حَمَّلُوا عَلَيْهِ مِنْ سَيِّئَاتِهِمْ».

اللَّهُمَّ إنَّا نَسألُكَ أن تَجعَلَ ذِمَمَنا بَريئَةً من حُقوقِ العِبادِ. آمين.

وصَلَّى اللهُ عَلَى سيِّدِنا محمَّدٍ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ. وَالْحَمْدُ لله رَبِّ الْعَالَمِين. سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُون * وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِين * وَالْحَمْدُ لله رَبِّ الْعَالَمِين.

**     **     **

تاريخ الكلمة:

الاثنين: 12/شوال/1434هـ، الموافق: 19/آب/ 2013م