83ـ مع الحبيب المصطفى: وَأَنَا مَهْمُومٌ عَلَى وَجْهِي

 

 مع الحبيب المصطفى صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم

83ـ وَأَنَا مَهْمُومٌ عَلَى وَجْهِي

مقدمة الكلمة:

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد:

فيا أيُّها الإخوةُ الكرام: إنَّ من طَبيعَةِ الحَياةِ الدُّنيا الهُمومَ والغُمومَ التي تُصيبُ الإنسانَ فيها، فهيَ دارُ اللَّأواءِ والشِّدَّةِ والضَّنكِ، ولهذا كانَ مِمَّا تَمَيَّزَت الجَنَّةُ به عن الدُّنيا أنْ ليسَ فيها هَمٌّ ولا غَمٌّ، ولا يَمَسُّ داخِلِيها نَصَبٌ، وما هُم منها بِمُخرَجينَ، قال اللهُ تعالى: ﴿وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ تَجْرِي مِن تَحْتِهِمُ الأَنْهَارُ وَقَالُوا الْحَمْدُ لله الَّذِي هَدَانَا لِهَـذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللهُ لَقَدْ جَاءتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ وَنُودُواْ أَن تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُون﴾.

وأهلُ الجَنَّةِ لا تَتَكَدَّرُ خَواطرُهُم ولا بِكَلِمَةٍ، ولا يَسمَعونَ فيها لَغواً ولا تأثيماً، إلا قِيلاً سَلاماً سَلاماً، كما قال تعالى: ﴿لا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْواً وَلا تَأْثِيماً * إِلا قِيلاً سَلاماً سَلاماً﴾.

أمَّا طَبيعَةُ الحَياةِ الدُّنيا فهيَ المُعاناةُ والمُقاساةُ والكَبَدُ الذي يُواجِهُهُ الإنسانُ في حَياتِهِ الدُّنيا المُتَقَلِّبَةِ، قال تعالى: ﴿لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي كَبَد﴾. وقال تعالى: ﴿إِنَّ الإِنسَانَ خُلِقَ هَلُوعاً * إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً * وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً * إِلا الْمُصَلِّين﴾. فهوَ حَزينٌ على ما فاتَ، خائِفٌ مِمَّا هوَ آتٍ، مَغمومٌ في الحَالَتَينِ.

أيُّها الإخوة الكرام: الأمرُ المَكروهُ إذا وَرَدَ على القَلبِ وكانَ على أمرٍ مَضَى أورَثَ في القَلبِ الحُزنَ، وإذا كانَ على أمرٍ في المُستَقبَلِ أورَثَ الهَمَّ، وإذا كانَ على أمرٍ واقِعٍ أحدَثَ الغَمَّ.

والقُلوبُ تَتَفاوَتُ في الهَمِّ والغَمِّ بِحَسَبِ ما فيها من الإيمانِ والتَّقوى، أو الفُسوقِ والفُجورِ والعِصيانِ؛ قَلبٌ فيهِ النُّورُ، وقَلبٌ فيهِ الظُّلمَةُ، وشَتَّانَ ما بَينَ القَلبَينِ، فَصَاحِبُ القَلبِ الأوَّلِ هوَ السَّعيدُ، وأمَّا صَاحِبُ القَلبِ الثَّاني فهوَ الشَّقِيُّ صَاحِبُ الهَمِّ والغَمِّ.

وكُلُّ واحِدٍ منهُما صَاحِبُ هَمٍّ، ولكن شَتَّانَ ما بَينَ هَمٍّ وهَمٍّ، فَهُناكَ هَمٌّ سامٍ، وهُناكَ هَمٌّ دَنيءٌ.

هَمُّ أهلِ التَّقوى والصَّلاحِ وأصحابِ القُلوبِ المُنَوَّرَةِ:

أيُّها الإخوة الكرام: الأنبِياءُ والمُرسَلونَ ومن تَبِعَهُم من أهلِ التَّقوى والصَّلاحِ يُصيبُهُمُ الهَمُّ، ولكن؛ الهَمُّ السَّامي، الذي نالَ النَّبيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ.

أولاً: هَمُّ النَّبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ يَومَ الطَّائِفِ:

روى الشيخان عن عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا أَنَّهَا قَالَتْ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: هَلْ أَتَى عَلَيْكَ يَوْمٌ كَانَ أَشَدَّ مِنْ يَوْمِ أُحُدٍ؟

قَالَ: «لَقَدْ لَقِيتُ مِنْ قَوْمِكِ مَا لَقِيتُ، وَكَانَ أَشَدَّ مَا لَقِيتُ مِنْهُمْ يَوْمَ الْعَقَبَةِ، إِذْ عَرَضْتُ نَفْسِي عَلَى ابْنِ عَبْدِ يَالِيلَ بْنِ عَبْدِ كُلَالٍ فَلَمْ يُجِبْنِي إِلَى مَا أَرَدْتُ، فَانْطَلَقْتُ وَأَنَا مَهْمُومٌ عَلَى وَجْهِي، فَلَمْ أَسْتَفِقْ إِلَّا وَأَنَا بِقَرْنِ الثَّعَالِبِ، فَرَفَعْتُ رَأْسِي فَإِذَا أَنَا بِسَحَابَةٍ قَدْ أَظَلَّتْنِي، فَنَظَرْتُ فَإِذَا فِيهَا جِبْرِيلُ.

فَنَادَانِي فَقَالَ: إِنَّ اللهَ قَدْ سَمِعَ قَوْلَ قَوْمِكَ لَكَ وَمَا رَدُّوا عَلَيْكَ، وَقَدْ بَعَثَ إِلَيْكَ مَلَكَ الْجِبَالِ لِتَأْمُرَهُ بِمَا شِئْتَ فِيهِمْ.

فَنَادَانِي مَلَكُ الْجِبَالِ فَسَلَّمَ عَلَيَّ ثُمَّ قَالَ: يَا مُحَمَّدُ، فَقَالَ ذَلِكَ فِيمَا شِئْتَ، إِنْ شِئْتَ أَنْ أُطْبِقَ عَلَيْهِم الْأَخْشَبَيْنِ».

فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «بَلْ أَرْجُو أَنْ يُخْرِجَ اللهُ مِنْ أَصْلَابِهِمْ مَنْ يَعْبُدُ اللهَ وَحْدَهُ لَا يُشْرِكُ بِهِ شَيْئاً».

ثانياً: هَمُّ النَّبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ في حادِثَةِ الإسراءِ:

روى الإمام مسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عنهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «لَقَدْ رَأَيْتُنِي فِي الْحِجْرِ وَقُرَيْشٌ تَسْأَلُنِي عَنْ مَسْرَايَ، فَسَأَلَتْنِي عَنْ أَشْيَاءَ مِنْ بَيْتِ الْمَقْدِسِ لَمْ أُثْبِتْهَا، فَكُرِبْتُ كُرْبَةً مَا كُرِبْتُ مِثْلَهُ قَطُّ، فَرَفَعَهُ اللهُ لِي أَنْظُرُ إِلَيْهِ، مَا يَسْأَلُونِي عَنْ شَيْءٍ إِلَّا أَنْبَأْتُهُمْ بِهِ».

وما دامَ هَمُّ الإنسانِ على هذا المُستَوى فَرَبُّنا عزَّ وجلَّ لن يَتَخَلَّى عن صَاحِبِهِ، وسَيَجعَلُ لهُ من كُلِّ هَمٍّ وكَربٍ فَرَجاً ومَخرَجاً.

ثالثاً: هَمُّ النَّبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ في الأذانِ:

روى أبو داود عَنْ أَبِي عُمَيْرِ بْنِ أَنَسٍ، عَنْ عُمُومَةٍ لَهُ مِنْ الْأَنْصَارِ رَضِيَ اللهُ عنهُم قَالَ: اهْتَمَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ لِلصَّلَاةِ كَيْفَ يَجْمَعُ النَّاسَ لَهَا.

فَقِيلَ لَهُ: انْصِبْ رَايَةً عِنْدَ حُضُورِ الصَّلَاةِ، فَإِذَا رَأَوْهَا آذَنَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً.

فَلَمْ يُعْجِبْهُ ذَلِكَ.

فَذُكِرَ لَهُ الْقُنْعُ ـ يَعْنِي الشَّبُّورَ؛ وَقَالَ زِيَادٌ: شَبُّورُ الْيَهُودِ ـ فَلَمْ يُعْجِبْهُ ذَلِكَ.

وَقَالَ: «هُوَ مِنْ أَمْرِ الْيَهُودِ».

فَذُكِرَ لَهُ النَّاقُوسُ فَقَالَ: «هُوَ مِنْ أَمْرِ النَّصَارَى».

فَانْصَرَفَ عَبْدُ الله بْنُ زَيْدِ بْنِ عَبْدِ رَبِّهِ وَهُوَ مُهْتَمٌّ لِهَمِّ رَسُولِ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، فَأُرِيَ الْأَذَانَ فِي مَنَامِهِ، فَغَدَا عَلَى رَسُولِ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ فَأَخْبَرَهُ.

فَقَالَ لَهُ: يَا رَسُولَ الله، إِنِّي لَبَيْنَ نَائِمٍ وَيَقْظَانَ إِذْ أَتَانِي آتٍ فَأَرَانِي الْأَذَانَ. اهـ.

ربُّنا عزَّ وجلَّ لن يَتَخَلَّى عن صَاحِبِ الهَمِّ السَّامي:

نعم أيُّها الإخوة الكرام، رَبُّنا عزَّ وجلَّ لن يَتَخَلَّى عن العَبدِ الذي جَعَلَ هَمَّهُ سَامِياً، جَعَلَ هَمَّهُ على دِينِهِ ونَبِيِّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ.

وكذلكَ لن يَتَخَلَّى رَبُّنا عزَّ وجلَّ عن العَبدِ المَهمومِ الصَّادِقِ في دِينِهِ إذا اتُّهِمَ بالكَذِبِ، كما وَقَعَ للصَّحابِيِّ الجَليلِ زَيدِ بنِ الأرقَمِ رَضِيَ اللهُ عنهُ لمَّا سَمِعَ رَأسَ المُنافِقينَ يَقولُ لأصحابِهِ: لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ.

روى الترمذي عن زَيْد بْن أَرْقَمَ رَضِيَ اللهُ عنهُ قَالَ: غَزَوْنَا مَعَ رَسُولِ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ وَكَانَ مَعَنَا أُنَاسٌ مِن الْأَعْرَابِ، فَكُنَّا نَبْتَدِرُ الْمَاءَ وَكَانَ الْأَعْرَابُ يَسْبِقُونا إِلَيْهِ، فَسَبَقَ أَعْرَابِيٌّ أَصْحَابَهُ، فَيَسْبَقُ الْأَعْرَابِيُّ فَيَمْلَأُ الْحَوْضَ وَيَجْعَلُ حَوْلَهُ حِجَارَةً وَيَجْعَلُ النِّطْعَ عَلَيْهِ حَتَّى يَجِيءَ أَصْحَابُهُ، فَأَتَى رَجُلٌ مِن الْأَنْصَارِ أَعْرَابِيَّاً فَأَرْخَى زِمَامَ نَاقَتِهِ لِتَشْرَبَ فَأَبَى أَنْ يَدَعَهُ، فَانْتَزَعَ قِبَاضَ الْمَاءِ، فَرَفَعَ الْأَعْرَابِيُّ خَشَبَتَهُ فَضَرَبَ بِهَا رَأْسَ الْأَنْصَارِيِّ فَشَجَّهُ، فَأَتَى عَبْدَ الله بْنَ أُبَيٍّ رَأْسَ الْمُنَافِقِينَ فَأَخْبَرَهُ وَكَانَ مِنْ أَصْحَابِهِ، فَغَضِبَ عَبْدُ الله بْنُ أُبَيٍّ ثُمَّ قَالَ: لَا تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ الله حَتَّى يَنْفَضُّوا مِنْ حَوْلِهِ ـ يَعْنِي الْأَعْرَابَ ـ وَكَانُوا يَحْضُرُونَ رَسُولَ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ عِنْدَ الطَّعَامِ.

فَقَالَ عَبْدُ الله: إِذَا انْفَضُّوا مِنْ عِنْدِ مُحَمَّدٍ فَأْتُوا مُحَمَّداً بِالطَّعَامِ فَلْيَأْكُلْ هُوَ وَمَنْ عِنْدَهُ.

ثُمَّ قَالَ لِأَصْحَابِهِ: لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ.

قَالَ زَيْدٌ: وَأَنَا رِدْفُ رَسُولِ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ فَسَمِعْتُ عَبْدَ الله بْنَ أُبَيٍّ فَأَخْبَرْتُ عَمِّي، فَانْطَلَقَ فَأَخْبَرَ رَسُولَ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ رَسُولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، فَحَلَفَ وَجَحَدَ، فَصَدَّقَهُ رَسُولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ وَكَذَّبَنِي.

فَجَاءَ عَمِّي إِلَيَّ فَقَالَ: مَا أَرَدْتَ إِلَّا أَنْ مَقَتَكَ رَسُولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ وَكَذَّبَكَ وَالْمُسْلِمُونَ، فَوَقَعَ عَلَيَّ مِن الْهَمِّ مَا لَمْ يَقَعْ عَلَى أَحَدٍ، فَبَيْنَمَا أَنَا أَسِيرُ مَعَ رَسُولِ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ فِي سَفَرٍ قَدْ خَفَقْتُ بِرَأْسِي مِن الْهَمِّ إِذْ أَتَانِي رَسُولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ فَعَرَكَ أُذُنِي وَضَحِكَ فِي وَجْهِي، فَمَا كَانَ يَسُرُّنِي أَنَّ لِي بِهَا الْخُلْدَ فِي الدُّنْيَا.

ثُمَّ إِنَّ أَبَا بَكْرٍ لَحِقَنِي فَقَالَ: مَا قَالَ لَكَ رَسُولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ؟

قُلْتُ: مَا قَالَ لِي شَيْئاً، إِلَّا أَنَّهُ عَرَكَ أُذُنِي وَضَحِكَ فِي وَجْهِي.

فَقَالَ: أَبْشِرْ.

ثُمَّ لَحِقَنِي عُمَرُ فَقُلْتُ لَهُ مِثْلَ قَوْلِي لِأَبِي بَكْرٍ، فَلَمَّا أَصْبَحْنَا قَرَأَ رَسُولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ سُورَةَ الْمُنَافِقِينَ.

أيُّها الإخوة الكرام: حاشا لِرَبِّنا عزَّ وجلَّ أن يَتَخَلَّى عن العَبدِ المُؤمِنِ الصَّادِقِ في حُبِّهِ لِدِينِهِ ولِنَبِيِّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، وإن كُذِّبَ بَينَ النَّاسِ، طالَتِ المُدَّةُ أم قَصُرَتْ، صَاحِبُ الهَمِّ السَّامي مَنصورٌ عاجِلاً أم آجِلاً، ولن يَتَخَلَّى رَبُّنا عزَّ وجلَّ عنهُ.

روى الإمام البخاري عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا قَالَتْ: أَسْلَمَت امْرَأَةٌ سَوْدَاءُ لِبَعْضِ الْعَرَبِ وَكَانَ لَهَا حِفْشٌ ـ بَيتٌ ضَيِّقٌ صَغيرٌ ـ فِي الْمَسْجِدِ، فَكَانَتْ تَأْتِينَا فَتَحَدَّثُ عِنْدَنَا، فَإِذَا فَرَغَتْ مِنْ حَدِيثِهَا قَالَتْ:

وَيَوْمُ الْوِشَاحِ مِنْ تَعَاجِيبِ رَبِّنَا   ***   أَلَا إِنَّهُ مِنْ بَلْدَةِ الْكُفْرِ أَنْجَانِي

فَلَمَّا أَكْثَرَتْ قَالَتْ لَهَا عَائِشَةُ: وَمَا يَوْمُ الْوِشَاحِ؟ ـ الوِشاحُ: شَيءٌ يُنسَجُ عَريضاً من أديمٍ ورُبَّما رُصِّعَ بالجَوهَرِ والخَرَزِ وتَشُدُّهُ المرأةُ بَينَ عَاتِقِها وكَشحِها ـ

قَالَتْ: خَرَجَتْ جُوَيْرِيَةٌ لِبَعْضِ أَهْلِي وَعَلَيْهَا وِشَاحٌ مِنْ أَدَمٍ فَسَقَطَ مِنْهَا، فَانْحَطَّتْ عَلَيْهِ الْحُدَيَّا ـ تَصغيرُ الحَدَأةِ ـ وَهِيَ تَحْسِبُهُ لَحْماً، فَأَخَذَتْهُ فَاتَّهَمُونِي بِهِ، فَعَذَّبُونِي حَتَّى بَلَغَ مِنْ أَمْرِي أَنَّهُمْ طَلَبُوا فِي قُبُلِي، ـ وفي روايةٍ للبيهقي قالت: فَدَعوتُ اللهَ أن يُبَرِّئَني ـ فَبَيْنَاهُمْ حَوْلِي وَأَنَا فِي كَرْبِي إِذْ أَقْبَلَت الْحُدَيَّا حَتَّى وَازَتْ ـ حاذَت ـ بِرُؤُوسِنَا ثُمَّ أَلْقَتْهُ فَأَخَذُوهُ، فَقُلْتُ لَهُمْ: هَذَا الَّذِي اتَّهَمْتُمُونِي بِهِ، وَأَنَا مِنْهُ بَرِيئَةٌ.

خاتِمَةٌ ـ نسألُ اللهَ تعالى حُسنَ الخاتِمَةِ ـ:

أيُّها الإخوة الكرام: قِيمَةُ الإنسانِ بما يَحتَويهِ قَلبُهُ من هَمٍّ، فإن كانَ هَمُّهُ سامِياً عالِياً فَرَبُّنا عزَّ وجلَّ لن يَتَخَلَّى عن صَاحِبِ هذا الهَمِّ، وإنَّ اللهَ تعالى مُؤَيِّدٌ لهُ ناصِرٌ وحافِظٌ، لأنَّ اللهَ عزَّ وجلَّ هوَ القائِلُ: ﴿ذَلِكَ بِأَنَّ اللهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لا مَوْلَى لَهُم﴾. والقائِلُ: ﴿اللهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّوُرِ﴾.

فالمُؤمِنُ صاحِبُ القَلبِ المُنَوَّرِ هوَ صَاحِبُ الهَمِّ السَّامي، هَمُّهُ غَيرَةٌ على دِينِ الله عزَّ وجلَّ، هَمُّهُ سَلامَةُ دِينِهِ وسَلامَةُ آخِرَتِهِ، هَمُّهُ بَراءَةُ ذِمَّتِهِ في الحَياةِ الدُّنيا قَبلَ الآخِرَةِ.

اللَّهُمَّ اجعَلْ هَمَّنا في مَرضاتِكَ. آمين.

وصَلَّى اللهُ عَلَى سيِّدِنا محمَّدٍ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ. وَالْحَمْدُ لله رَبِّ الْعَالَمِين. سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُون * وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِين * وَالْحَمْدُ لله رَبِّ الْعَالَمِين.

**     **     **

تاريخ الكلمة:

الخميس: 26/ذو الحجة/1434هـ، الموافق: 31/تشرين الأول/ 2013م