الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:
فَمَا دَامَ الزَّوْجُ صَاحِبَ دِينٍ وَخُلُقٍ فَلَا يَنْبَغِي لِتِلْكَ الفَتَاةِ أَنْ تَتَعَجَّلَ في طَلَبِ الطَّلَاقِ، لِأَنَّ قُلُوبَ العِبَادِ بَيْنَ أُصْبُعَيْنِ مِنْ أَصَابِعِ الرَّحْمَنِ يُقَلِّبُهَا كَيْفَ يَشَاءُ.
وَلْتَذْكُرْ قَوْلَ اللهِ تعالى: ﴿وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا﴾. وَهَذَا الأَمْرُ لَيْسَ مَقْصُورًا عَلَى الرِّجَالِ، بَلْ هُوَ شَامِلٌ للنِّسَاءِ، فَلْتُعَاشِرْ زَوْجَهَا بِالمَعْرُوفِ، وَلْتَتَطَلَّعْ إلى وَعْدِ اللهِ تعالى الذي لَا يُخْلَفُ ﴿وَيَجْعَلَ اللهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا﴾.
وَلْتَذْكُرْ كَذَلِكَ قَوْلَهُ تعالى: ﴿وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ﴾. فَالإِنْسَانُ لَا يَدْرِي أَيْنَ يَكْمُنُ الخَيْرُ.
وَإِنْ كَانَتْ تَكْرَهُ بَعْضَ الصِّفَاتِ فِيهِ، فَعَلَيْهَا بِالصَّبْرِ وَالتَّحَمُّلِ مُقَابِلَ الحَسَنَاتِ الكَثِيرَةِ التي فِيهِ، وَلْتَذْكُرْ قَوْلَ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «لَا يَفْرَكْ مُؤْمِنٌ مُؤْمِنَةً، إِنْ كَرِهَ مِنْهَا خُلُقًا رَضِيَ مِنْهَا آخَرَ» أَوْ قَالَ: «غَيْرَهُ» رَوَاهُ الإِمَامُ مُسْلِمٌ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.
يَعْنِي: لَا يُبْغِضْ مُؤْمِنٌ مُؤْمِنَةً، وَكَذَلِكَ هَذَا الحَدِيث يَشْمَلُ النِّسَاءَ مَعَ الرِّجَالِ، فَإِذَا كَرِهَتِ الزَّوْجَةُ خُلُقًا مِنْ زَوْجِهَا فَهُنَاكَ أَخْلَاقٌ تُرْضِيهَا فِيهِ.
وَبِنَاءً عَلَى ذَلِكَ:
فَعَلَى هَذِهِ الزَّوْجَةِ أَنْ تَعْلَمَ أَنَّ الكَمَالَ للهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَلَنْ تَجِدَ رَجُلًا فِيهِ صِفَاتُ الكَمَالِ كُلِّهَا، فَعَلَيْهَا بِالصَّبْرِ وَالمُصَابَرَةِ، وَلْتَحْتَسِبِ الأَمْرَ عِنْدَ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَلْتَنْظُرْ في إِيجَابِيَّاتِ زَوْجِهَا، قَبْلَ النَّظَرِ في سَلْبِيَّاتِهِ، وَلْتُكْثِرْ مِنَ الدُّعَاءِ في تَحْوِيلِ قَلْبِهَا إلى مَا يُرْضِي مَوْلَانَا عَزَّ وَجَلَّ.
وَأَمَّا إِذَا خَشِيَتْ عَلَى نَفْسِهَا مِنَ الانْحِرَافِ، فَلَا مَانِعَ مِنْ طَلَبِ تَسْرِيحِهَا وَأَنْ تَفْتَدِيَ نَفْسَهَا مِنْهُ بِالمُخَالَعَةِ الرِّضَائِيَّةِ بَيْنَهُمَا. هذا، والله تعالى أعلم.
إشكال حول سعة الرزق
سؤال 279: نَحْنُ نَعْلَمُ أَنَّ المَعَاصِيَ وَالمُنْكَرَاتِ سَبَبٌ لِمَحْقِ الرِّزْقِ، وَلَكِنَّنَا نَرَى الظَّالِمِينَ الذينَ يَعِيثُونَ في الأَرْضِ فَسَادًا قَدْ وَسَّعَ اللهُ تعالى عَلَيْهِمْ في أَرْزَاقِهِمْ، فَكَيْفَ نُزِيلُ هَذَا الإِشْكَالَ مِنْ نُفُوسِنَا؟
الجواب: الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:
فَمِمَّا لَا شَكَّ فِيهِ أَنَّ الظُّلْمَ وَالمَعَاصِيَ وَالمُنْكَرَاتِ سَبَبٌ لِمَحْقِ البَرَكَةِ في الرِّزْقِ، وَإِنَّ الرَّجُلَ لَيُحْرَمُ الرِّزقَ بِالذَّنْبِ الذي يُصِيبُهُ، كَمَا جَاءَ في الحَدِيثِ الشَّرِيفِ الذي رواه الإِمَامُ الحَاكِمُ عَنْ ثَوْبَانَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «لَا يَرُدُّ الْقَدَرَ إِلَّا الدُّعَاءُ، وَلَا يَزِيدُ فِي الْعُمُرِ إِلَّا الْبِرُّ، وَإِنَّ الرَّجُلَ لَيُحْرَمُ الرِّزْقَ بِالذَّنْبِ يُصِيبُهُ».
وَالبَرَكَةُ في الرِّزْقِ وَالسَّعَةُ فِيهِ لَا تَكُونُ إِلَّا بِالتَّقْوَى وَالعَمَلِ الصَّالِحِ، كَمَا قَالَ تعالى: ﴿وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ﴾.
وَقَدْ ذَكَرَ اللهُ تعالى لَنَا في القُرْآنِ العَظِيمِ أَصْحَابَ الجَنَّةِ الذينَ عَزَمُوا عَلَى حِرْمَانِ الفُقَرَاءِ مِنْ نَصِيبِهِمْ فِيمَا آتَاهُمُ اللهُ تعالى مِنْ فَضْلِهِ، وَكَيْفَ كَانَتْ عَاقِبَتُهُمْ، قَالَ تعالى: ﴿إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ * وَلَا يَسْتَثْنُونَ * فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نَائِمُونَ * فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ * فَتَنَادَوْا مُصْبِحِينَ * أَنِ اغْدُوا عَلَى حَرْثِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَارِمِينَ * فَانْطَلَقُوا وَهُمْ يَتَخَافَتُونَ * أَنْ لَا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُمْ مِسْكِينٌ * وَغَدَوْا عَلَى حَرْدٍ قَادِرِينَ * فَلَمَّا رَأَوْهَا قَالُوا إِنَّا لَضَالُّونَ * بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ * قَالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْلَا تُسَبِّحُونَ * قَالُوا سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ * فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَلَاوَمُونَ * قَالُوا يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا طَاغِينَ * عَسَى رَبُّنَا أَنْ يُبْدِلَنَا خَيْرًا مِنْهَا إِنَّا إِلَى رَبِّنَا رَاغِبُونَ * كَذَلِكَ الْعَذَابُ وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ﴾.
كَمَا ذَكَرَ رَبُّنَا في سُورَةِ الكَهْفِ قِصَّةَ صَاحِبِ الجَنَّتَيْنِ وَمَصِيرَهُ، قَالَ تعالى: ﴿وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَى مَا أَنْفَقَ فِيهَا وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَدًا * وَلَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللهِ وَمَا كَانَ مُنْتَصِرًا﴾.
وَبِنَاءً عَلَى ذَلِكَ:
فَلَا تَغْتَرَّ بِرُؤْيَةِ أَهْلِ المَعَاصِي وَالمُنْكَرَاتِ، وَالذينَ يَعِيثُونَ في الأَرْضِ فَسَادًا عِنْدَمَا يُوَسِّعُ اللهُ تعالى عَلَيْهِمْ في العَطَاءِ وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا مِنْ بَابِ الاسْتِدْرَاجِ، كَمَا قَالَ تعالى: ﴿سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ * وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ﴾.
وَقَالَ تعالى: ﴿فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ﴾.
فَهُمْ عَلَى مَوْعِدٍ مَعَ قَوْلِهِ تعالى: ﴿إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ﴾ رَبُّنَا عَزَّ وَجَلَّ يُمْهِلُ وَلَا يُهْمِلُ، لِحِكْمَةٍ يُرِيدُهَا تَبَارَكَ وتعالى. هذا، والله تعالى أعلم.