الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:
فَالوَاجِبُ عَلَى الإِنْسَانِ المُؤْمِنِ أَنْ يَكُونَ سَلِيمَ القَلْبِ، لَا يَحْمِلُ في قَلْبِهِ حِقْدًا وَلَا حَسَدًا عَلَى أَحَدٍ مِنْ خَلْقِ اللهِ تعالى، رَوَى ابْنُ مَاجَه عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا، قَالَ: قِيلَ لِرَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: أَيُّ النَّاسِ أَفْضَلُ؟
قَالَ: «كُلُّ مَخْمُومِ الْقَلْبِ، صَدُوقِ اللِّسَانِ».
قَالُوا: صَدُوقُ اللِّسَانِ نَعْرِفُهُ، فَمَا مَخْمُومُ الْقَلْبِ؟
قَالَ: «هُوَ التَّقِيُّ النَّقِيُّ، لَا إِثْمَ فِيهِ، وَلَا بَغْيَ، وَلَا غِلَّ، وَلَا حَسَدَ».
وَرَبُّنَا عَزَّ وَجَلَّ وَصَفَ عِبَادَهُ الصَّالِحِينَ الَّذِينَ جَاؤُوا مِنْ بَعْدِ المُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ بِقَوْلِهِ: ﴿وَالَّذِينَ جَاؤُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ﴾.
وَيَقُولُ تعالى: ﴿وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ﴾.
وَيَقُولُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «لَا تَبَاغَضُوا، وَلَا تَحَاسَدُوا، وَلَا تَدَابَرُوا، وَكُونُوا عِبَادَ اللهِ إِخْوَانًا، وَلَا يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ أَنْ يَهْجُرَ أَخَاهُ فَوْقَ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ» رَوَاهُ الإِمَامُ البُخَارِيُّ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.
يَقُولُ ابْنُ عَبْدِ البَرِّ: قَوْلُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «لَا تَبَاغَضُوا» مَعْنَاهُ: النَّدْبُ إِلَى رِيَاضَةِ النَّفْسِ عَنِ التَّحَابِّ. هَذَا أَوَّلًا.
ثَانِيًا: رَوَى الإِمَامُ البُخَارِيُّ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا قَالَتْ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «الأَرْوَاحُ جُنُودٌ مُجَنَّدَةٌ، فَمَا تَعَارَفَ مِنْهَا ائْتَلَفَ، وَمَا تَنَاكَرَ مِنْهَا اخْتَلَفَ».
يَقُولُ الإِمَامُ الخَطَّابِيُّ رَحِمَهُ اللهُ تعالى: يُحْتَمَل أَنْ يَكُونَ إِشَارَةً إِلَى مَعْنَى التَّشَاكُلِ فِي الْخَيْرِ وَالشَّرِّ وَالصَّلَاحِ وَالْفَسَادِ، وَأَنَّ الْخَيِّرَ مِنَ النَّاسِ يَحِنُّ إِلَى شَكْلِهِ وَالشِّرِّيرَ نَظِيرُ ذَلِكَ يَمِيلُ إِلَى نَظِيرِهِ، فَتَعَارُفُ الْأَرْوَاحِ يَقَعُ بِحَسَبِ الطِّبَاعِ الَّتِي جُبِلَتْ عَلَيْهَا مِنْ خَيْرٍ وَشَرٍّ، فَإِذَا اتَّفَقَتْ تَعَارَفَتْ، وَإِذَا اخْتَلَفَتْ تَنَاكَرَتْ. اهـ.
وَيَقُولُ الإِمَامُ القُرْطُبِيُّ رَحِمَهُ اللهُ تعالى: الْأَرْوَاحُ وَإِنِ اتَّفَقَتْ فِي كَوْنِهَا أَرْوَاحًا لَكِنَّهَا تَتَمَايَزُ بِأُمُورٍ مُخْتَلِفَةٍ تَتَنَوَّعُ بِهَا، فَتَتَشَاكَلُ أَشْخَاصُ النَّوْعِ الْوَاحِدِ وَتَتَنَاسَبُ بِسَبَبِ مَا اجْتَمَعَتْ فِيهِ مِنَ الْمَعْنَى الْخَاصِّ لِذَلِكَ النَّوْعِ لِلْمُنَاسَبَةِ، وَلِذَلِكَ نُشَاهِدُ أَشْخَاصَ كُلِّ نَوْعٍ تَأْلَفُ نَوْعَهَا وَتَنْفِرُ مِنْ مُخَالِفِهَا؛ ثُمَّ إِنَّا نَجِدُ بَعْضَ أَشْخَاصِ النَّوْعِ الْوَاحِدِ يَتَآلَفُ وَبَعْضَهَا يَتَنَافَرُ، وَذَلِكَ بِحَسَبِ الْأُمُورِ الَّتِي يَحْصُلُ الاتِّفَاقُ وَالِانْفِرَادُ بِسَبَبِهَا.
وَبِنَاءً عَلَى ذَلِكَ:
فَإِنْ كُنْتَ تَجِدُ في قَلْبِكَ مَا تَجِدُ، مَعَ تَأْدِيَتِكَ حَقَّهُ الشَّرْعِيَّ الَّذِي فَرَضَهُ عَلَيْنَا شَرْعُنَا الشَّرِيفُ بِقَوْلِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «حَقُّ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ سِتٌّ».
قِيلَ: مَا هُنَّ يَا رَسُولَ اللهِ؟
قَالَ: «إِذَا لَقِيتَهُ فَسَلِّمْ عَلَيْهِ، وَإِذَا دَعَاكَ فَأَجِبْهُ، وَإِذَا اسْتَنْصَحَكَ فَانْصَحْ لَهُ، وَإِذَا عَطَسَ فَحَمِدَ اللهَ فَسَمِّتْهُ، وَإِذَا مَرِضَ فَعُدْهُ وَإِذَا مَاتَ فَاتَّبِعْهُ» رَوَاهُ الإِمَامُ مُسْلِمٌ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.
إِنْ كُنْتَ تَجِدُ في قَلْبِكَ مَا تَجِدُ، وَلَيْسَ بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ هَجْرٌ، فَلَا إِثْمَ عَلَيْكَ إِنْ شَاءَ اللهُ تعالى، وَلَكِنْ عَلَيْكَ بِتَطْهِيرِ قَلْبِكَ مِنْ هَذَا الوَصْفِ، لِأَنَّ اللهَ تعالى وَصَفَ أَهْلَ الجَنَّةِ بِقَوْلِهِ: ﴿وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ﴾.
فَجَاهِدْ نَفْسَكَ، وَتَحَبَّبْ إِلَيْهِ بِحُسْنِ الأَخْلَاقِ وَكَثْرَةِ الدُّعَاءِ لَهُ، مَعَ كَثْرَةِ الدُّعَاءِ لِنَفْسِكَ بِقَوْلِكَ: ﴿رَبَّنَا وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ﴾.
وَتَذَكَّرْ في الخِتَامِ قَوْلَ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ عِنْدَمَا خَاطَبَ سَيِّدَنَا أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: «يَا بُنَيَّ، إِنْ قَدَرْتَ أَنْ تُصْبِحَ وَتُمْسِيَ لَيْسَ فِي قَلْبِكَ غِشٌّ لِأَحَدٍ فَافْعَلْ».
ثُمَّ قَالَ لَهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «يَا بُنَيَّ، وَذَلِكَ مِنْ سُنَّتِي، وَمَنْ أَحْيَا سُنَّتِي فَقَدْ أَحَبَّنِي، وَمَنْ أَحَبَّنِي كَانَ مَعِي فِي الجَنَّةِ» رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ عَنْ سَعِيدِ بْنِ المُسَيِّبِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.
أَسْأَلُكَ يَا رَبِّ أَنْ تَجْعَلَ قُلُوبَنَا قُلُوبَ الأَتْقِيَاءِ الأَنْقِيَاءِ الأَصْفِيَاءِ. آمين.