الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:
فَهَذَا السُّؤَالُ يَكْثُرُ في هَذِهِ الآوِنَةِ، وَهُنَاكَ بَعْضُ النَّاسِ حَكَمَ عَلَى طَالِبِ المَدَدِ مِنْ مَخْلُوقٍ بِالشِّرْكِ الأَكْبَرِ وَالكُفْرِ، وَاسْتَشْهَدَ بِآيَاتٍ نَزَلَتْ في حَقِّ المُشْرِكِينَ فَاسْتَشْهَدَ بِقَوْلِ اللهِ تعالى: ﴿إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ﴾.
وَاسْتَشْهَدَ بِقَوْلِهِ تعالى: ﴿وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللهِ إِلَهًا آخَرَ لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ﴾.
وَاسْتَشْهَدَ بِقَوْلِهِ تعالى: ﴿ذَلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ فَتَبَارَكَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ * هُوَ الْحَيُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ الْحَمْدُ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾.
وَاسْتَشْهَدَ بِقَوْلِهِ تعالى: ﴿إِنْ تَدْعُوهُمْ لَا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ﴾.
فَجَعَلَ هَؤُلَاءِ سَيِّدَنَا رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ وَالأَوْلِيَاءَ وَالصَّالِحِينَ بِمَنْزِلَةِ آلِهَةٍ تُعْبَدُ مِنْ دُونِ اللهِ تعالى، وَتُقْصَدُ مِنْ دُونِهِ تعالى، وَتُسْأَلُ مِنْ دُونِ اللهِ تعالى، وَجَعَلُوا الَّذِينَ يَسْأَلُونَ المَدَدَ بِمَنْزِلِةِ المُشْرِكِينَ ـ وَالعِيَاذُ بِاللهِ تعالى ـ.
وَخَيْرُ جَوَابٍ عَلَى هَذَا السُّؤَالِ، مَا ذَكَرَهُ العَارِفُ بِاللهِ تعالى، سَيِّدِي الشَّيْخُ عَبْدُ القَادِرِ عِيسَى رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى في كِتَابِهِ: حَقَائِقُ عَنِ التَّصَوُّفِ، فَقَالَ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: وَمِنَ الكَلِمَاتِ الَّتِي لَهَا تَأْوِيلٌ شَرْعِيٌّ صَحِيحٌ كَلِمَةُ [مَدَدٍ] الَّتِي يُردِّدُهَا بَعْضُ الصُّوفِيَّةِ، فَيُنَادِي بِهَا أَحَدُهُمْ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ أَو يُخَاطِبُ بِهَا شَيْخَهُ.
وَحُجَّةُ الـمُعْتَرِضِ عَلَيْهِمْ أَنَّ هَذِهِ الكَلِمَةَ سُؤَالٌ لِغَيْرِ اللهِ وَاسْتِعَانَةٌ بِسِوَاهُ، وَلَا يَجُوزُ السُّؤَالُ إِلَّا لَهُ وَلَا الاسْتِعَانَةُ إِلَّا بِهِ، حَيْثُ قَالَ الرَّسُولُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «إِذَا سَأَلْتَ فَاسْأَلِ اللهَ، وَإِذَا اسْتَعَنْتَ فَاسْتَعِنْ بِاللهِ».
ثُمَّ إِنَّ اللهَ تَعَالَى بَيَّنَ في كِتَابِهِ العَزِيزِ أَنَّهُ هُوَ مَصْدَرُ الإِمْدَادِ حِينَ قَالَ: ﴿كُلًّا نُمِدُّ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ﴾.
وَقَدْ جَهِلَ هَؤُلَاءِ الـمُعْتَرِضُونَ أَنَّ السَّادَةَ الصُّوفِيَّةَ هُمْ أَهْلُ التَّوْحِيدِ الخَالِصِ، الَّذِينَ يَأْخُذُونَ بِيَدِ مُرِيدِيهِمْ لِيُذِيقُوهُمْ حَلَاوَةَ الإِيمَانِ وَصَفَاءَ اليَقِينِ، وَيُخَلِّصُوهُمْ مِنْ شَوَائِبِ الشِّرْكِ في جَمِيعِ صُوَرِهِ وَأَنْوَاعِهِ.
وَلِتَوْضِيحِ الـمُرَادِ مِنْ كَلِمَةِ [مَدَدٍ] نَقُولُ: لَا بُدَّ لِلْمُؤْمِنِ فِي جَمِيعِ أَحْوَالِهِ أَنْ تَكُونَ لَهُ نَظْرَتَانِ:
ـ نَظْرَةٌ تَوْحِيدِيَّةٌ للهِ تَعَالَى، بِأَنَّهُ وَحْدَهُ مُسَبِّبُ الأَسْبَابِ، وَالفَاعِلُ الـمُطْلَقُ في هَذَا الكَوْنِ، الـمُنْفَرِدُ بِالإِيجَادِ وَالإِمْدَادِ، وَلَا يَجُوزُ للعَبْدِ أَنْ يُشْرِكَ مَعَهُ أَحَدًا مِنْ خَلْقِهِ، مَهْمَا عَلَا قَدْرُهُ أَو سَمَتْ رُتْبَتُهُ مِنْ نَبِيٍّ أَو وَلِيٍّ.
ـ وَنَظْرَةٌ للأَسْبَابِ الَّتِي أَثْبَتَهَا اللهُ تَعَالَى بِحِكْمَتِهِ، حَيْثُ جَعَلَ لِكُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا.
فَالـمُؤْمِنُ يَتَّخِذُ الأَسْبَابَ وَلَكِنَّهُ لَا يَعْتَمِدُ عَلَيْهَا وَلَا يَعْتَقِدُ بِتَأْثِيرِهَا الاسْتِقْلَالِيِّ، فَإِذَا نَظَرَ العَبْدُ إِلَى السَّبَبِ وَاعْتَقَدَ بِتَأْثِيرِهِ الـمُسْتَقِلِّ عَنِ اللهِ تَعَالَى فَقَدْ أَشْرَكَ، لِأَنَّهُ جَعَلَ الإِلَهَ الوَاحِدَ آلِهَةً مُتَعَدِّدَةٍ.
وَإِذَا نَظَرَ للمُسَبِّبِ وَأَهْمَلَ اتِّخَاذَ الأَسْبَابِ فَقَدْ خَالَفَ سُنَّةَ اللهِ الذي جَعَلَ لِكُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا.
وَالكَمَالُ هُوَ النَّظَرُ بِالعَيْنَيْنِ مَعًا، فَنَشْهَدُ الـمُسَبِّبَ وَلَا نُهْمِلُ السَّبَبَ.
وَلِتَوْضِيحِ هَذِهِ الفِكْرَةِ نَسُوقُ بَعْضَ الأَمْثِلَةِ عَلَيْهَا:
ـ إِنَّ اللهَ تَعَالَى وَحْدَهُ هُوَ خَالِقُ البَشَرِ، وَمَعَ ذَلِكَ فَقَدْ جَعَلَ لِخَلْقِهِمْ سَبَبًا عَادِيًّا، وَهُوَ الْتِقَاءُ الزَّوْجَيْنِ، وَتَكُوُّنُ الجَنِينِ في رَحِمِ الأُمِّ، وَخُرُوجُهُ مِنْهُ في أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ.
ـ وَكَذَلِكَ فَإِنَّ اللهَ تَعَالَى هُوَ وَحْدَهُ الـمُمِيتُ، وَلَكِنَّهُ جَعَلَ للإِمَاتَةِ سَبَبًا هُوَ مَلَكُ الـمَوْتِ، فَإِذَا لَاحَظْنَا الـمُسَبِّبَ قُلْنَا: ﴿اللهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ﴾.
وَإِذَا قُلْنَا: إِنَّ فُلَانًا قَدْ تَوَفَّاهُ مَلَكُ الـمَوْتِ لَا نَكُونُ قَدْ أَشْرَكْنَا مَعَ اللهِ إِلَهًا آخَرَ، لِأَنَّنَا لَاحَظْنَا السَّبَبَ، كَمَا بَيَّنَهُ اللهُ تَعَالَى في قَوْلِهِ: ﴿قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ﴾.
ـ وَكَذَلِكَ فَإِنَّ اللهَ تَعَالَى هُوَ الرَّزَّاقُ، وَلَكِنَّهُ جَعَلَ للرِّزْقِ أَسْبَابًا عَادِيَّةً كَالتِّجَارَةِ وَالزِّرَاعَةِ.
فَإِذَا لَاحَظْنَا الـمُسَبِّبَ في مَعْرِضِ التَّوْحِيدِ أَدْرَكْنَا قَوْلَهُ تَعَالَى: ﴿إِنَّ اللهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ﴾. وَإِذَا لَاحَظْنَا السَّبَبَ وَقُلْنَا: إِنَّ فُلَانًا يُرْزَقُ مِنْ كَسْبِهِ، لَا نَكُونُ بِذَلِكَ قَدْ أَشْرَكْنَا، فَرَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «مَا أَكَلَ أَحَدٌ طَعَامًا قَطُّ خَيْرًا مِنْ أَنْ يَأْكُلَ مِنْ عَمَلِ يَدِهِ».
وَقَدْ جَمَعَ الرَّسُولُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ النَّظْرَتَيْنِ تَوْضِيحًا للأَمْرِ وَبَيَانًا للكَمَالِ في قَوْلِهِ: «وَإِنَّمَا أَنَا قَاسِمٌ وَاللهُ يُعْطِي».
ـ وَكَذَلِكَ الأَمْرُ بِالنِّسْبَةِ لِلْإِنْعَامِ، فَفِي مَعْرِضِ التَّوْحِيدِ قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللهِ﴾. لِأَنَّهُ الـمُنْعِمُ الحَقِيقِيُّ وَحْدَهُ.
وَفِي مَعْرِضِ الجَمْعِ بَيْنَ مُلَاحَظَةِ الـمُسَبِّبِ وَالسَّبَبِ قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ﴾. فَلَيْسَ الرَّسُولُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ شَرِيكًا للهِ في عَطَائِهِ، وَإِنَّمَا سِيقَتِ النِّعَمُ لِزَيْدِ بْنِ حَارِثَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ بِسَبَبِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، فَقَدْ أَسْلَمَ عَلَى يَدَيْهِ، وَأُعْتِقَ بِفَضْلِهِ، وَتَزَوَّجَ بِاخْتِيَارِهِ.
ـ وَكَذَلِكَ بِالنِّسْبَةِ للاسْتِعَانَةِ، إِذَا نَظَرْنَا للمُسَبِّبِ قُلْنَا: «إِذَا اسْتَعَنْتَ فَاسْتَعِنْ بِاللهِ» وَإِذَا نَظَرْنَا للسَّبَبِ قُلْنَا: ﴿وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى﴾. «وَاللهُ في عَوْنِ العَبْدِ مَا كَانَ العَبْدُ في عَوْنِ أَخِيهِ».
فَإِذَا قَالَ الـمُؤْمِنُ لِأَخِيهِ: أَعِنِّي عَلَى حَمْلِ هَذَا الـمَتَاعِ لَا يَكُونُ مُشْرِكًا مَعَ اللهِ تَعَالَى أَحَدًا أَو مُسْتَعِينًا بِغَيْرِ اللهِ، لِأَنَّ الـمُؤْمِنَ يَنْظُرُ بِعَيْنَيْهِ، فَيَرَى الـمُسَبِّبَ وَالسَّبَبَ، وَكُلُّ مَنْ يَتَّهِمُهُ بِالشِّرْكِ فَهُوَ ضَالٌّ مُضِلٌّ.
ـ وَهَكَذَا الأَمْرُ بِالنِّسْبَةِ للهِدَايَةِ، إِذَا نَظَرْنَا للمُسَبِّبِ، رَأَيْنَا أَنَّ الهَادِيَ هُوَ اللهُ وَحْدَهُ، لِهَذَا قَالَ اللهُ تَعَالَى لِرَسُولِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: ﴿إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ﴾. وَإِذَا لَاحَظْنَا السَّبَبَ نَرَى قَوْلَ اللهِ تَعَالَى لِرَسُولِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: ﴿وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾. أَيْ تَكُونُ سَبَبًا في هِدَايَةِ مَنْ أَرَادَ اللهُ هِدَايَتَهُ.
وَالعُلَمَاءُ العَارِفُونَ الـمُرْشِدُونَ هُمْ وَرَثَةُ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ في هِدَايَةِ الخَلْقِ وَدَلَالَتِهِمْ عَلَى اللهِ تَعَالَى، فَإِذَا اسْتَرْشَدَ مُرِيدٌ بِشَيْخِهِ فَقَدِ اتَّخَذَ سَبَبًا مِنْ أَسْبَابِ الهِدَايَةِ التي أَمَرَ اللهُ بِهَا وَجَعَلَ لَهَا أَئِمَّةً يَدُلُّونَ عَلَيْهَا: ﴿وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ﴾.
وَصِلَةُ الـمُرِيدِ صِلَةٌ رُوحِيَّةٌ، لَا تَفْصِلُهَا الـمَسَافَاتُ وَلَا الحَوَاجِزُ الـمَادِّيَّةُ، وَإِذَا كَانَتِ الجُدُرُ وَالـمَسَافَاتُ لَا تَفْصِلُ أَصْوَاتَ الأَثِيرِ فَكَيْفَ تَفْصِلُ بَيْنَ الأَرْوَاحِ الـمُطْلَقَةِ؟ لِذَا قَالُوا: (شَيْخُكَ هُوَ الذي يَنْفَعُكَ بُعْدُهُ كَمَا يَنْفَعُكَ قُرْبُهُ). وَبِمَا أَنَّ الشَّيْخَ سَبَبُ هِدَايَةِ الـمُرِيدِ فَإِنَّ الـمُرِيدَ إِذَا تَعَلَّقَ بِشَيْخِهِ وَطَلَبَ مِنْهُ الـمَدَدَ لَا يَكُونُ قَدْ أَشْرَكَ بِاللهِ تَعَالَى، لِأَنَّهُ يُلَاحِظُ هُنَا السَّبَبَ ـ كَمَا أَوْضَحْنَاهُ سَابِقًا ـ مَعَ اعْتِقَادِهِ أَنَّ الهَادِيَ وَالـمُمِدَّ هُوَ اللهُ تَعَالَى، وَأَنَّ الشَّيْخَ لَيْسَ إِلَّا سَبَبًا أَقَامَهُ اللهُ لِهِدَايَةِ خَلْقِهِ وَإِمْدَادِهِمْ بِالنَّفَحَاتِ القَلْبِيَّةِ وَالتَّوْجِيهَاتِ الشَّرْعِيَّةِ.
وَرَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ هُوَ البَحْرُ الزَّاخِرُ الذي يَسْتَمِدُّ مِنْهُ هَؤُلَاءِ الشُّيُوخُ وَعَنْهُ يَصْدُرُونَ.
فَإِذَا سَلَّمْنَا بِقِيَامِ الصِّلَةِ الرُّوحِيَّةِ بَيْنَ الـمُرِيدِ وَشَيْخِهِ، سَلَّمْنَا بِقِيَامِ الـمَدَدِ الـمُتَرَتِّبِ عَلَيْهَا، لِأَنَّ اللهَ يَرْزُقُ البَعْضَ بِالبَعْضِ في أَمْرِ الدِّينِ وَالدُّنْيَا.
وَلَعَلَّ القَارِئَ الكَرِيمَ بَعْدَ هَذَا قَدِ اكْتَفَى بِهَذِهِ الأَمْثِلَةِ مِنْ كَلَامِ القَوْمِ وَبِتِلْكَ النُّقُولِ الصَّرِيحَةِ مِنْ عِبَارَاتِهِمْ، حَتَّى إِذَا مَا رَأَى كَلَامًا مُشْتَبِهًا يَحْتَمِلُ وَيَحْتَمِلُ أَحْسَنَ الظَّنِّ بِهِمْ، وَالْتَمَسَ سُبُلًا لِتَأْوِيلِ كَلَامِهِمْ بَعْدَ أَنْ تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّ التَّأْوِيلَ جَائِزٌ في كَلَامِ اللهِ تَعَالَى وَسُنَّةِ رَسُولِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ وَكَلَامِ الفُقَهَاءِ وَالـمُحَدِّثِينَ وَالأُصُولِيِّينَ وَالنَّحْوِيِّينَ وَغَيْرِهِمْ.
وَلِهَذَا قَالَ الإِمَامُ النَّوَوِيُّ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (يَحْرُمُ عَلَى كُلِّ عَاقِلٍ أَنْ يُسِيءَ الظَّنَّ بِأَحَدٍ مِنْ أَوْلِيَاءِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَيَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يُؤَوِّلَ أَقْوَالَهُمْ وَأَفْعَالَهُمْ مَادَامَ لَمْ يَلْحَقْ بِدَرَجَتِهِمْ، وَلَا يَعْجِزُ عَنْ ذَلِكَ إِلَّا قَلِيلُ التَّوْفِيقِ). اهـ.
وَبِنَاءً عَلَى ذَلِكَ:
فَطَلَبُ المَدَدِ مِنَ الأَنْبِيَاءِ وَالأَوْلِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ أَحْيَاءً وَمُنْتَقِلِينَ مِنَ الأُمُورِ المَشْرُوعَةِ الَّتِي جَرَى عَلَيْهَا عَمَلُ المُسْلِمِينَ، وَذَلِكَ مَحْمُولٌ عَلَى كَوْنِهِمْ سَبَبًا، كَالاسْتِعَانَةِ بِالطَّبِيبِ عَلَى الشِّفَاءِ مِنْ مَرَضٍ، لَا عَلَى سَبِيلِ التَّأْثِيرِ وَالخَلْقِ، فَالأَصْلُ حَمْلُ أَقْوَالِ المُسْلِمِينَ وَأَفْعَالِهِمْ عَلَى السَّلَامَةِ، حَيْثُ إِنَّ هُنَاكَ فَارِقًا بَيْنَ اعْتِقَادِ كَوْنِ الشَّيْءِ سَبَبًا وَبَيْنَ اعْتِقَادِهِ خَالِقًا وَمُؤَثِّرًا.
عَلَى أَيِّ شَيْءٍ يُحْمَلُ قَوْلُ سَيِّدِنَا جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ للسَّيِّدَةِ مَرْيَمَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا وَعَلَيْهَا السَّلَامُ: ﴿قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلَامًا زَكِيًّا﴾؟ هَلْ يُحْمَلُ عَلَى كَوْنِهِ سَبَبًا، أَمْ خَالِقًا وَمُؤَثِّرًا؟
وَعَلَى أَيِّ شَيْءٍ يُحْمَلُ قَوْلُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ نَفَّسَ عَنْ مُؤْمِنٍ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ الدُّنْيَا، نَفَّسَ اللهُ عَنْهُ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَمَنْ يَسَّرَ عَلَى مُعْسِرٍ، يَسَّرَ اللهُ عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَمَنْ سَتَرَ مُسْلِمًا، سَتَرَهُ اللهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَاللهُ فِي عَوْنِ الْعَبْدِ مَا كَانَ الْعَبْدُ فِي عَوْنِ أَخِيهِ» رَوَاهُ الإِمَامُ مُسْلِمٌ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ. هَلْ يُحْمَلُ عَلَى كَوْنِهِ سَبَبًا، أَمْ خَالِقًا وَمُؤَثِّرًا؟
فَلَوْ سَأَلْتَ طَالِبَ المَدَدِ، مَاذَا تَعْتَقِدُ بِقَوْلِكَ: مَدَدًا يَا سَيِّدِي يَا رَسُولَ اللهِ؟ أَو مَدَدًا يَا فُلَانُ مِنَ الصَّالِحِينَ؟ لَأَجَابَكَ بِبَيَانٍ وَاضِحٍ: أَنَا أَعْتَقِدُ اعْتِقَادًا جَازِمًا أَنَّهُ لَا يَضُرُّ وَلَا يَنْفَعُ مِنْ دُونِ اللهِ تعالى، وَلَكِنَّهُ سَبَبٌ أَدْخُلُ بِهِ عَلَى اللهِ تعالى. هذا، والله تعالى أعلم.