الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:
فَمِنْ أَسْمَاءِ اللهِ الحُسْنَى العَفُوُّ، وَالغَافِرُ، وَالغَفَّارُ، وَمِنْ صِفَاتِهِ الحُسْنَى أَنَّهُ يَغْفِرُ، فَإِذَا كَانَ كُلُّ الخَلْقِ لَا يُذْنِبُونَ، فَلِمَنْ يَغْفِرُ؟
خَلَقَ اللهِ تعالى الإِنْسَانَ وَيَعْلَمُ أَنَّهُ سَيَعْصِي، وَأَنَّهُ يَتُوبُ إلى رَبِّهِ، وَأَنَّهُ يَنْسَى ثُمَّ يَتَذَكَّرُ وَيَتُوبُ إلى اللهِ تعالى، فَالإِنْسَانُ خَطَّاءُ، رَوَى التِّرْمِذِيُّ عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «كُلُّ ابْنِ آدَمَ خَطَّاءٌ وَخَيْرُ الخَطَّائِينَ التَّوَّابُونَ». هَذَا أَوَّلًا.
ثَانِيًا: هَذَا الحَدِيثُ الشَّرِيفُ فِيهِ بَيَانُ سَعَةِ رَحْمَةِ اللهِ تعالى، وَمَغْفِرَتِهِ لِذُنُوبِ عِبَادِهِ، وَهَذَا الحَدِيثُ بَاعِثٌ لِلْمُسْلِمِ عَلَى عَدَمِ القُنُوطِ مِنْ رَحْمَةِ اللهِ تعالى، فَإِذَا أَذْنَبَ تَابَ وَأَنَابَ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللهِ إِنَّ اللهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ﴾.
يَقُولُ العَلَّامَةُ السَّعْدِيُّ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: ﴿لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللهِ﴾ أَيْ: لَا تَيْأَسُوا مِنْهَا، فَتُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ، وَتَقُولُوا قَدْ كَثُرَتْ ذُنُوبُنَا وَتَرَاكَمَتْ عُيُوبُنَا، فَلَيْسَ لَهَا طَرِيقٌ يُزِيلُهَا وَلَا سَبِيلَ يَصْرِفُهَا، فَتَبْقَوْنَ بِسَبَبِ ذَلِكَ مُصِرِّينَ عَلَى العِصْيَانِ، مُتَزَوِّدِينَ مَا يُغْضِبُ عَلَيْكُمُ الرَّحْمَنُ، وَلَكِنِ اعْرِفُوا رَبَّكُمْ بِأَسْمَائِهِ الدَّالَّةِ عَلَى كَرَمِهِ وَجُودِهِ، وَاعْلَمُوا أَنَّهُ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا مِنَ الشِّرْكِ، وَالقَتْلِ، وَالزِّنَا، وَالرِّبَا، وَالظُّلْمِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الذُّنُوبِ الكِبَارِ وَالصِّغَارِ. ﴿إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ﴾ أَيْ: وَصْفُهُ المَغْفِرَةُ وَالرَّحْمَةُ، وَصْفَانِ لَازِمَانِ ذَاتِيَّانِ، لَا تَنْفَكُّ ذَاتُهُ عَنْهُمَا، وَلَمْ تَزَلْ آثَارُهُمَا سَارِيَةً فِي الوُجُودِ، مَالِئَةً لِلْمَوْجُودِ، تَسُحُّ يَدَاهُ مِنَ الخَيْرَاتِ آنَاءِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، وَيُوَالِي النِّعَمَ عَلَى العِبَادِ وَالفَوَاضِلَ فِي السِّرِّ وَالجَهَارِ، وَالعَطَاءُ أَحَبُّ إِلَيْهِ مِنَ المَنْعِ، وَالرَّحْمَةُ سَبَقَتِ الغَضَبَ وَغَلَبَتْهُ، وَلَكِنْ لِمَغْفَرِتِهِ وَرَحْمَتِهِ وَنَيْلِهِمَا أَسْبَابٌ إِنْ لَمْ يَأْتِ بِهَا العَبْدُ، فَقَدْ أَغْلَقَ عَلَى نَفْسِهِ بَابَ الرَّحْمَةِ وَالمَغْفِرَةِ، أَعْظَمَهَا وَأَجَلَّهَا، بَلْ لَا سَبَبَ لَهَا غَيْرُهُ، الإِنَابَةُ إِلَى اللهِ تَعَالَى بِالتَّوْبَةِ النَّصُوحِ، وَالدُّعَاءِ وَالتَّضَرُّعِ وَالتَّأَلُّهِ وَالتَّعَبُّدِ، فَهَلُمَّ إِلَى هَذَا السَّبَبِ الأَجَلِّ، وَالطَّرِيقِ الأَعْظَمِ. اهـ.
وَلَكِنْ لَا يَجُوزُ لِلْمُسْلِمِ أَنْ يَغْتَرَّ بِذَلِكَ فَيَتَجَرَّأَ بِسَبَبِهِ عَلَى المَعْصِيَةِ، فَمَا يُدْرِيهِ أَنْ يَعِيشَ بَعْدَ الذَّنْبِ حَتَّى يَتُوبَ، فَمِنَ النَّاسِ مَنْ تُقْبَضُ رُوحُهُ حَالَ فِعْلِ الذَّنْبِ، أَو بَعْدَهُ قَبْلَ أَنْ يَتُوبَ، وَلَوْ تَابَ فَمَا يُدْرِيهِ أَنْ تَكُونَ تَوْبَتُهُ قَدْ قُبِلَتْ؟
وَبِنَاءً عَلَى ذَلِكَ:
فَالحَدِيثُ فِيهِ تَرْغِيبٌ لِمَنْ كَثُرَتْ ذُنُوبُهُ، وَحَاوَلَ الشَّيْطَانُ أَنْ يَصُدَّهُ عَنِ التَّوْبَةِ بِسَبَبِ كَثْرَةِ ذُنُوبِهِ، أَنْ يُسْرِعَ إلى التَّوْبَةِ، وَلَا يَيْأَسَ مِنْ رَحْمَةِ اللهِ تعالى وَمِنْ مَغْفِرَتِهِ، فَمَهْمَا وَقَعَ في الذُّنُوبِ ـ حَتَّى في الشِّرْكِ ـ وَتَابَ إلى اللهِ تعالى، فَاللهُ تعالى يَقْبَلُ تَوْبَتَهُ، وَلَيْسَ فِيهِ حَثٌّ عَلَى مَعْصِيَةِ اللهِ تعالى مَعَاذَ اللهِ قَالَ تَعَالَى: ﴿قُلْ إِنَّ اللهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ﴾.
وَلَكِنَّهُ في المُقَابِلِ لَا يَأْمَنُ مَكْرَ اللهِ تعالى، وَلِهَذَا قَالَ العُلَمَاءُ: يَنْبَغِي عَلَى المُسْلِمِ أَنْ يَكُونَ بَيْنَ الخَوْفِ وَالرَّجَاءِ، وَأَنْ يَسْتَحْضِرَ قَوْلَ اللهِ تعالى: ﴿مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ * وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ﴾.
أَسْأَلُ اللهَ تعالى أَنْ يَرْزُقَنَا صِدْقَ التَّوْبَةِ. آمين. هذا، والله تعالى أعلم.