الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:
فَقَدِ اتَّفَقَ الفُقَهَاءُ عَلَى عَدَمِ جَوَازِ التَّدَاوِي بِالمُحَرَّمِ وَالنَّجَسِ مِنْ حَيْثُ الجُمْلَةُ، لِمَا رَوَى الإِمَامُ البُخَارِيُّ قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ فِي السَّكَرِ: إِنَّ اللهَ لَمْ يَجْعَلْ شِفَاءَكُمْ فِيمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ.
وَلِقَوْلِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ اللهَ أَنْزَلَ الدَّاءَ وَالدَّوَاءَ، وَجَعَلَ لِكُلِّ دَاءٍ دَوَاءً فَتَدَاوَوْا، وَلَا تَدَاوَوْا بِحَرَامٍ».
وَعَنْ سَيِّدِنَا عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، أَنَّهُ كَتَبَ إلَى خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ إِنَّهُ بَلَغَنِي أَنَّك تُدَلِّكُ بِالْخَمْرِ، وَإِنَّ اللهَ قَدْ حَرَّمَ ظَاهِرَ الْخَمْرِ وَبَاطِنَهَا، وَقَدْ حَرَّمَ مَسَّ الْخَمْرِ كَمَا حَرَّمَ شُرْبَهَا، فَلَا تُمِسُّوهَا أَجْسَادَكُمْ فَإِنَّهَا نَجَسٌ. كَذَا في كَشَّافِ القِنَاعِ.
وَرَوَى الحَاكِمُ عَنْ عُبَيْدِ بْنِ أَبِي سَوِيَّةَ، أَنَّهُ سَمِعَ سُبَيْعَةَ الْأَسْلَمِيَّةَ تَقُولُ: دَخَلَ عَلَى عَائِشَةَ نِسْوَةٌ مِنْ أَهْلِ الشَّامِ، فَقَالَتْ عَائِشَةُ: مِمَّنْ أَنْتُنَّ؟
فَقُلْنَ: مِنْ أَهْلِ حِمْصَ.
فَقَالَتْ: صَوَاحِبُ الْحَمَّامَاتِ.
فَقُلْنَ: نَعَمْ.
قَالَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «الْحَمَّامُ حَرَامٌ عَلَى نِسَاءِ أُمَّتِي».
فَقَالَتِ امْرَأَةٌ مِنْهُنَّ: فَلِي بَنَاتٌ أُمَشِّطُهُنَّ بِهَذَا الشَّرَابِ.
قَالَتْ: بِأَيِّ الشَّرَابِ؟.
فَقَالَتِ: الْخَمْرُ.
فَقَالَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا: «أَفَكُنْتِ طَيِّبَةَ النَّفْسِ أَنْ تَمْتَشِطِي بِدَمِ خِنْزِيرٍ؟».
قَالَتْ: لَا.
قَالَتْ: فَإِنَّهُ مِثْلُهُ.
وَبِنَاءً عَلَى ذَلِكَ:
فَلَا يَجُوزُ تَدْلِيكُ الجِسْمِ بِالخَمْرِ، لِأَنَّهُ نَجِسٌ، كَمَا قَالَ تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾.
وَرَوَى الإِمَامُ مُسْلِمٌ أَنَّ طَارِقَ بْنَ سُوَيْدٍ الْجُعْفِيَّ سَأَلَ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ عَنِ الْخَمْرِ، فَنَهَاهُ ـ أَوْ كَرِهَ ـ أَنْ يَصْنَعَهَا، فَقَالَ: إِنَّمَا أَصْنَعُهَا لِلدَّوَاءِ.
فَقَالَ: «إِنَّهُ لَيْسَ بِدَوَاءٍ، وَلَكِنَّهُ دَاءٌ».
وَيَقُولُ ابْنُ القَيِّمِ رَحِمَهُ اللهُ تعالى: الْمُعَالَجَةُ بِالْمُحَرَّمَاتِ قَبِيحَةٌ عَقْلًا وَشَرْعًا، أَمَّا الشَّرْعُ فَمَا ذَكَرْنَا مِنْ هَذِهِ الْأَحَادِيثِ وَغَيْرِهَا، وَأَمَّا الْعَقْلُ، فَهُوَ أَنَّ اللهَ سُبْحَانَهُ إِنَّمَا حَرَّمَهُ لِخُبْثِهِ، فَإِنَّهُ لَمْ يُحَرِّمْ عَلَى هَذِهِ الْأُمَّةِ طَيِّبًا عُقُوبَةً لَهَا، كَمَا حَرَّمَهُ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بِقَوْلِهِ: ﴿فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ طَيِّباتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ﴾.
وَإِنَّمَا حَرَّمَ عَلَى هَذِهِ الْأُمَّةِ مَا حَرَّمَ لِخُبْثِهِ، وَتَحْرِيمُهُ لَهُ حِمْيَةً لَهُمْ، وَصِيَانَةً عَنْ تَنَاوُلِهِ، فَلَا يُنَاسِبُ أَنْ يُطْلَبَ بِهِ الشِّفَاءُ مِنَ الْأَسْقَامِ وَالْعِلَلِ، فَإِنَّهُ وَإِنْ أَثَّرَ فِي إِزَالَتِهَا، لَكِنَّهُ يُعْقِبُ سَقَمًا أَعْظَمَ مِنْهُ فِي الْقَلْبِ بِقُوَّةِ الْخُبْثِ الَّذِي فِيهِ، فَيَكُونُ الْمُدَاوَى بِهِ قَدْ سَعَى فِي إِزَالَةِ سُقْمِ الْبَدَنِ بِسُقْمِ القَلْبِ.
وَأَيْضًا فَإِنَّ تَحْرِيمَهُ يَقْتَضِي تَجَنُّبَهُ وَالْبُعْدَ عَنْهُ بِكُلِّ طَرِيقٍ، وَفِي اتِّخَاذِهِ دَوَاءً حَضٌّ عَلَى التَّرْغِيبِ فِيهِ وَمُلَابَسَتِهِ، وَهَذَا ضِدُّ مَقْصُودِ الشَّارِعِ، وَأَيْضًا فَإِنَّهُ دَاءٌ كَمَا نَصَّ عَلَيْهِ صَاحِبُ الشَّرِيعَةِ، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُتَّخَذَ دَوَاءً.
وَأَيْضًا فَإِنَّهُ يُكْسِبُ الطَّبِيعَةَ وَالرُّوحَ صِفَةَ الْخُبْثِ، لِأَنَّ الطَّبِيعَةَ تَنْفَعِلُ عَنْ كَيْفِيَّةِ الدَّوَاءِ انْفِعَالًا بَيِّنًا، فَإِذَا كَانَتْ كَيْفِيَّتُهُ خَبِيثَةً، اكْتَسَبَتِ الطَّبِيعَةُ مِنْهُ خُبْثًا فَكَيْفَ إِذَا كَانَ خَبِيثًا فِي ذَاتِهِ، وَلِهَذَا حَرَّمَ اللهُ سُبْحَانَهُ عَلَى عِبَادِهِ الْأَغْذِيَةَ وَالْأَشْرِبَةَ وَالْمَلَابِسَ الْخَبِيثَةَ، لِمَا تُكْسِبُ النَّفْسَ مِنْ هَيْئَةِ الْخُبْثِ وَصِفَتِهِ. هذا، والله تعالى أعلم.