الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:
أولاً: الحدُّ هو عقوبة مقدَّرة وجبت حقاً لله تعالى، وإقامته فرض على وليِّ الأمر.
أما القصاص فهو أن يفعل بالفاعل الجاني مثل ما فعل، وواجب على وليِّ الأمر أن يطبِّق حكم القصاص إذا رُفع إليه من مستحقِّه، ومباحٌ طلبُه من قبل مستحقِّه إذا استوفى شروطه، فله أن يطالب به، وله أن يصالح عليه، وله أن يعفو عنه، والعفو أفضل، ثم الصلح، وسواءٌ في ذلك كلِّه أن تكون الجناية على النفس، أو على ما دونها.
ثانياً: لا خلاف بين الفقهاء في أنَّه لا تجوز الشفاعة في الحدود بعد وصولها للحاكم والثبوت عنده، لأنَّه طَلَبُ تركِ الواجب، والنبي صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم قال لأسامة بن زيد حين شفع في المرأة المخزومية التي سرقت: (أَتَشْفَعُ فِي حَدٍّ مِنْ حُدُودِ اللهِ) رواه الإمام البخاري عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا.
ويقول ابن عمر رضي الله عنهما: سمعت رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم يقول: (مَنْ حَالَتْ شَفَاعَتُهُ دُونَ حَدٍّ مِنْ حُدُودِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ فَقَدْ ضَادَّ اللهَ فِي أَمْرِهِ) رواه الإمام أحمد وأبو داود.
أما الشفاعة قبل وصولها إلى الحاكم فجائزة عند جمهور الفقهاء.
ثالثاً: لا خلاف بين الفقهاء في أنَّ القصاص حقٌّ لأولياء الدم، فإذا عفوا عن القصاص عفواً مستوفياً لشروطه سقط القصاص بالاتفاق، لأنه حقٌّ لهم فيسقط بعفوهم، والعفو عن القصاص مندوب إليه شرعاً، لقوله تعالى: {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاء إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ}، ولقوله تعالى: {فَمَن تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَّهُ}. ولحديث سيدنا أنس رضي الله عنه قال: (مَا رَأَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ رُفِعَ إِلَيْهِ شَيْءٌ فِيهِ قِصَاصٌ إِلا أَمَرَ فِيهِ بِالعَفْوِ). رواه أبو داود.
وبناء على ذلك:
فالعفو عن القصاص مشروع عند جمهور الفقهاء، بل مندوب إليه؛ لأنه حقٌّ للعبد، وليس هو كالحدود التي هي حقُّ الله تعالى، حيث لا عفو ولا شفاعة ولا إسقاط لها إذا وصلت إلى الحاكم، وثبتت بالبيِّنة.
فإذا عفا أهل المقتول عن القصاص فهو الأفضل، وإن صالحوا عليه فكذلك هو أولى من القصاص. هذا، والله تعالى أعلم.