الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:
فَقَد ذَهَبَ جُمْهُورُ الفُقَهَاءِ إلى أَنَّ مَكَانَ العِدَّةِ مِنْ طَلَاقٍ، أَو فَسْخٍ، أَو مَوْتٍ، هُوَ بَيْتُ الزَّوْجِيَّةِ التي كَانَتْ تَسْكُنُهُ الزَّوْجَةُ قَبْلَ مُفَارَقَةِ زَوْجِهَا، وَقَبْلَ مَوْتِهِ، أَو عِنْدَمَا بَلَغَهَا خَبَرُ مَوْتِهِ.
فَإِذَا كَانَتْ خَارِجَ بَيْتِ الزَّوْجِيَّةِ فَطَلَّقَهَا زَوْجُهَا، أَو مَاتَ عَنْهَا، كَانَ عَلَيْهَا أَنْ تَعُودَ إلى مَنْزِلِهَا الذي كَانَتْ تَسْكُنُ فِيهِ للاعْتِدَادِ.
وَالسُّكْنَى في بَيْتِ الزَّوْجِيَّةِ وَجَبَتْ بِطَرِيقِ التَّعَبُّدِ، فَلَا تَسْقُطُ، وَلَا تَتَغَيَّرُ إِلَّا بِالأَعْذَارِ، لِقَوْلِهِ تعالى: ﴿وَاتَّقُوا اللهَ رَبَّكُمْ لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلَا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ﴾. فَاللهُ سُبْحَانَهُ وتعالى أَضَافَ البَيْتَ إِلَيْهَا، وَالبَيْتُ المُضَافُ إِلَيْهَا هُوَ الذي كَانَتْ تَسْكُنُهُ قَبْلَ الطَّلَاقِ أَو قَبْلَ المَوْتِ.
روى أبو داود والترمذي عَنِ الفُرَيْعَةِ بِنْتِ مَالِكِ بْنِ سِنَانٍ وَهِيَ أُخْتُ أَبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ، أَنَّهَا جَاءَتْ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ تَسْأَلُهُ أَنْ تَرْجِعَ إِلَى أَهْلِهَا فِي بَنِي خُدْرَةَ، وَأَنَّ زَوْجَهَا خَرَجَ فِي طَلَبِ أَعْبُدٍ لَهُ أَبَقُوا، حَتَّى إِذَا كَانَ بِطَرَفِ القَدُومِ لَحِقَهُمْ فَقَتَلُوهُ.
قَالَتْ: فَسَأَلْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ أَنْ أَرْجِعَ إِلَى أَهْلِي، فَإِنَّ زَوْجِي لَمْ يَتْرُكْ لِي مَسْكَنَاً يَمْلِكُهُ وَلَا نَفَقَةً.
قَالَتْ: فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «نَعَمْ».
قَالَتْ: فَانْصَرَفْتُ، حَتَّى إِذَا كُنْتُ فِي الحُجْرَةِ، أَوْ فِي المَسْجِدِ، نَادَانِي رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، أَوْ أَمَرَ بِي فَنُودِيتُ لَهُ، فَقَالَ: «كَيْفَ قُلْتِ؟».
قَالَتْ: فَرَدَدْتُ عَلَيْهِ القِصَّةَ الَّتِي ذَكَرْتُ لَهُ مِنْ شَأْنِ زَوْجِي.
قَالَ: «امْكُثِي فِي بَيْتِكِ حَتَّى يَبْلُغَ الكِتَابُ أَجَلَهُ».
قَالَتْ: فَاعْتَدَدْتُ فِيهِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرَاً.
قَالَتْ: فَلَمَّا كَانَ عُثْمَانُ أَرْسَلَ إِلَيَّ، فَسَأَلَنِي عَنْ ذَلِكَ، فَأَخْبَرْتُهُ، فَاتَّبَعَهُ وَقَضَى بِهِ.
وبناء على ذلك:
فَالعِدَّةُ يَجِبُ أَنْ تُقْضَى في بَيْتِ الزَّوْجِيَّةِ، فَإِنْ أَخْرَجَهَا زَوْجُهَا كَانَ آثِمَاً، لِأَنَّهُ خَالَفَ قَوْلَ اللهِ تعالى: ﴿وَاتَّقُوا اللهَ رَبَّكُمْ لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ﴾. فَمَا اتَّقَى اللهَ تعالى في ذَلِكَ، وَلَكِنَّ العِدَّةَ لَا تَسْقُطُ عَنْهَا، بَلْ يَجِبُ عَلَيْهَا أَنْ تَعْتَدَّ في بَيْتِ أَهْلِهَا، لِأَنَّ العِدَّةَ حَقُّ اللهِ تعالى، وَقَدْ أَوْجَبَهَا اللهُ تعالى عَلَيْهَا بِقَوْلِهِ: ﴿وَالمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ﴾.
وَقَدْ ذَهَبَ الفُقَهَاءُ إلى أَنَّ المَرْأَةَ إِذَا اضْطُرَّتْ إلى الخُرُوجِ مِنْ بَيْتِهَا، تَنْتَقِلُ إلى مَكَانٍ آخَرَ، وَيَكُونُ سُكْنَاهَا في البَيْتِ الذي انْتَقَلَتْ إِلَيْهِ بِمَنْزِلَةِ كَوْنِهَا في المَنْزِلِ الذي انْتَقَلَتْ مِنْهُ في حُرْمَةِ الخُرُوجِ مِنْهُ.
وَيُصْبِحُ المَنْزِلُ الذي انْتَقَلَتْ إِلَيْهِ كَأَنَّهُ مَنْزِلُهَا مِنَ الأَصْلِ، فَلَزِمَهَا المُقَامُ فِيهِ حَتَّى تَنْقَضِيَ العِدَّةُ.
ر. الموسوعة الفقهية الكويتية ج 29 ص 347 وما بعدها. هذا، والله تعالى أعلم.