الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:
فَإِنَّ مِنْ أَطْوَلِ الأَحَادِيثِ التي وَرَدَتْ عَنْ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ كَانَ عَلَى مَائِدَةِ الطَّعَامِ.
روى الإمام مسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: أُتِيَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ يَوْمَاً بِلَحْمٍ، فَرُفِعَ إِلَيْهِ الذِّرَاعُ، وَكَانَتْ تُعْجِبُهُ فَنَهَسَ مِنْهَا نَهْسَةً فَقَالَ: «أَنَا سَيِّدُ النَّاسِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَهَلْ تَدْرُونَ بِمَ ذَاكَ؟ يَجْمَعُ اللهُ يَوْمَ القِيَامَةِ الأَوَّلِينَ وَالآخِرِينَ فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ، فَيُسْمِعُهُمُ الدَّاعِي، وَيَنْفُذُهُمُ البَصَرُ، وَتَدْنُو الشَّمْسُ فَيَبْلُغُ النَّاسَ مِنَ الغَمِّ وَالكَرْبِ مَا لَا يُطِيقُونَ، وَمَا لَا يَحْتَمِلُونَ، فَيَقُولُ بَعْضُ النَّاسِ لِبَعْضٍ: أَلَا تَرَوْنَ مَا أَنْتُمْ فِيهِ؟ أَلَا تَرَوْنَ مَا قَدْ بَلَغَكُمْ؟ أَلَا تَنْظُرُونَ مَنْ يَشْفَعُ لَكُمْ إِلَى رَبِّكُمْ؟ فَيَقُولُ بَعْضُ النَّاسِ لِبَعْضٍ: ائْتُوا آدَمَ، فَيَأْتُونَ آدَمَ، فَيَقُولُونَ: يَا آدَمُ، أَنْتَ أَبُو الْبَشَرِ، خَلَقَكَ اللهُ بِيَدِهِ، وَنَفَخَ فِيكَ مِنْ رُوحِهِ، وَأَمَرَ المَلَائِكَةَ فَسَجَدُوا لَكَ، اشْفَعْ لَنَا إِلَى رَبِّكَ، أَلَا تَرَى إِلَى مَا نَحْنُ فِيهِ؟ أَلَا تَرَى إِلَى مَا قَدْ بَلَغَنَا؟ فَيَقُولُ آدَمُ: إِنَّ رَبِّي غَضِبَ الْيَوْمَ غَضَبَاً لَمْ يَغْضَبْ قَبْلَهُ مِثْلَهُ، وَلَنْ يَغْضَبَ بَعْدَهُ مِثْلَهُ، وَإِنَّهُ نَهَانِي عَنِ الشَّجَرَةِ فَعَصَيْتُهُ؛ نَفْسِي نَفْسِي، اذْهَبُوا إِلَى غَيْرِي، اذْهَبُوا إِلَى نُوحٍ».
ثُمَّ يُحَدِّثُهُمْ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، أَنَّهُمْ يَذْهَبُونَ إلى نُوحٍ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فَيَعْتَذِرُ، وَيَذْهَبُونَ إلى إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فَيَعْتَذِرُ، وَيَذْهَبُونَ إلى مُوسَى عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فَيَعْتَذِرُ، وَيَذْهَبُونَ إلى عِيسَى عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فَيَعْتَذِرُ، وَيًقُولُ لَهُمْ: «اذْهَبُوا إِلَى مُحَمَّدٍ، فَيَأْتُونِّي فَيَقُولُونَ: يَا مُحَمَّدُ، أَنْتَ رَسُولُ اللهِ، وَخَاتَمُ الْأَنْبِيَاءِ، وَغَفَرَ اللهُ لَكَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ، وَمَا تَأَخَّرَ، اشْفَعْ لَنَا إِلَى رَبِّكَ، أَلَا تَرَى مَا نَحْنُ فِيهِ؟ أَلَا تَرَى مَا قَدْ بَلَغَنَا؟ فَأَنْطَلِقُ، فَآتِي تَحْتَ الْعَرْشِ، فَأَقَعُ سَاجِدَاً لِرَبِّي، ثُمَّ يَفْتَحُ اللهُ عَلَيَّ وَيُلْهِمُنِي مِنْ مَحَامِدِهِ، وَحُسْنِ الثَّنَاءِ عَلَيْهِ شَيْئَاً لَمْ يَفْتَحْهُ لِأَحَدٍ قَبْلِي، ثُمَّ يُقَالُ: يَا مُحَمَّدُ، ارْفَعْ رَأْسَكَ، سَلْ تُعْطَهْ، اشْفَعْ تُشَفَّعْ، فَأَرْفَعُ رَأْسِي، فَأَقُولُ: يَا رَبِّ، أُمَّتِي أُمَّتِي، فَيُقَالُ: يَا مُحَمَّدُ، أَدْخِلْ الجَنَّةَ مِنْ أُمَّتِكَ مَنْ لَا حِسَابَ عَلَيْهِ مِنَ البَابِ الأَيْمَنِ مِنْ أَبْوَابِ الجَنَّةِ، وَهُمْ شُرَكَاءُ النَّاسِ فِيمَا سِوَى ذَلِكَ مِنَ الأَبْوَابِ، وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ، إِنَّ مَا بَيْنَ المِصْرَاعَيْنِ مِنْ مَصَارِيعِ الجَنَّةِ لَكَمَا بَيْنَ مَكَّةَ وَهَجَرَ، أَوْ كَمَا بَيْنَ مَكَّةَ وَبُصْرَى».
فَكَانَ مِنْ هَدْيِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ الحَدِيثُ أَثْنَاءَ الطَّعَامِ.
وَيَقُولُ ابْنُ الجَوْزِيِّ: مِنْ آدَابِ الأَكْلِ أَنْ لَا يَسْكُتُوا عَلَى الطَّعَامِ، بَل يَتَكَلَّمُونَ بِالمَعْرُوفِ، وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يُبَاسِطَ الإِخْوَانَ بِالحَدِيثِ الطَّيِّبِ عِنْدَ الأَكْلِ وَالحِكَايَاتِ الَّتِي تَلِيقُ بِالحَالِ إِذَا كَانُوا مُنْقَبِضِينَ لِيَحْصُلَ لَهُمُ الانْبِسَاطُ وَيَطُولَ جُلُوسُهُمْ.
وَقَالَ الحَنَفِيَّةُ: وَلَا يَتَكَلَّمُ بِمَا يُسْتَقْذَرُ، بَل يَذْكُرُ نَحْوَ حِكَايَاتِ الصَّالِحِينَ، فَإِنَّ مِنْ آدَابِ الأَكْلِ الكَلاَمَ عَلَى الطَّعَامِ، وَلَا يَسْكُتُ عَنِ الكَلَامِ، فَإِنَّ السُّكُوتَ المَحْضَ مِنْ سِيَرِ الأَعَاجِمِ، بَلْ عَلَيْهِ أَنْ يَتَحَدَّثَ بِالمُبَاحِ وَحِكَايَاتِ الصَّالِحِينَ، وَمِنْ هَذَا قِيلَ: الصَّمْتُ عَلَى الطَّعَامِ، مِنْ سِيرَةِ الجُهَلَاءِ وَاللِّئَامِ، لَا مِنْ سِيرَةِ العُلَمَاءِ الكِرَامِ.
وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: يُسَنُّ الحَدِيثُ غَيْرُ المُحَرَّمِ كَحِكَايَاتِ الصَّالِحِينَ عَلَى الطَّعَامِ؛ وَتَقْلِيلُ الكَلَامِ أَوْلَى.
وَقَالَ الحَنَابِلَةُ: يُكْرَهُ لِمَنْ يَأْكُلُ مَعَ غَيْرِهِ أَنْ يَتَكَلَّمَ بِمَا يُسْتَقْذَرُ أَوْ بِمَا يُضْحِكُهُمْ أَوْ يُخْزِيهِمْ، وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَتَكَلَّمَ بِالحَدِيثِ الطَّيِّبِ أَثْنَاءَ الطَّعَامِ.
وَبِنَاءً عَلَى ذَلِكَ:
فَمِنَ السُّنَّةِ الحَدِيثُ عَلَى الطَّعَامِ، وَأَمَّا مَا يَذْكُرُهُ النَّاسُ: تَحَدَّثُوا عَلَى الطَّعَامِ وَلَو عَلَى حِسَابِ أَسْلِحَتِكُمْ؛ فَلَيْسَ صَحِيحَاً. هذا، والله تعالى أعلم.