الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:
فحديثنا اليوم عن وجوب تعليم أبنائنا وجوب الطاعة لسيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، ووجوب الاتباع له صلى الله عليه وسلم.
الفرق بين الاتباع والطاعة:
هناك فرق بين الاتباع والطاعة، إذ الطاعة مرتبطة بالأمر والنهي، وقد يكون الحامل عليها الخوف من العقوبة، أو الطمع بالمثوبة، وقد يكون المحبة للآمر.
أما الاتباع فلا حامل له إلا المحبة النابعة من نفس المتبع، فكل محب متبع وليس كل طائع محباً، والذي يدلّ على التفريق بينهما قوله تعالى: {وَلَقَدْ قَالَ لَهُمْ هَارُونُ مِن قَبْلُ يَا قَوْمِ إِنَّمَا فُتِنتُم بِهِ وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمَنُ فَاتَّبِعُونِي وَأَطِيعُوا أَمْرِي}. وأكثر الأنبياء عليهم السلام قالوا مثل هذا، حيث أمروا قومهم بوجوب الطاعة ووجوب الاتباع، لأن العطف يقتضي المغايرة.
دليل وجوب الطاعة لسيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم:
وهذا ما أوجبه الله تعالى علينا بنص القرآن العظيم، حيث أوجب علينا الطاعة وأوجب علينا الاتباع.
أولاً: فقال تعالى في وجوب الطاعة: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللّهِ وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذ ظَّلَمُواْ أَنفُسَهُمْ جَآؤُوكَ فَاسْتَغْفَرُواْ اللّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُواْ اللّهَ تَوَّابًا رَّحِيمًا}.
ثانياً: وقال تعالى: {وَأَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَاحْذَرُواْ فَإِن تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُواْ أَنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلاَغُ الْمُبِين}.
ثالثاً: وقال جلَّت قدرته: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَنفَالِ قُلِ الأَنفَالُ لِلّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُواْ اللّهَ وَأَصْلِحُواْ ذَاتَ بِيْنِكُمْ وَأَطِيعُواْ اللّهَ وَرَسُولَهُ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِين}.
رابعاً: بل جعل طاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم من طاعة الله عز وجل فقال سبحانه وتعالى: {مَّنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللّهَ وَمَن تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا}.
ثمرة الطاعة لسيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم:
وبعد أن أوجب الطاعة علينا نحوه صلى الله عليه وسلم، عرَّفنا على ثمراتها، قال تعالى: {قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِن تَوَلَّوا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُم مَّا حُمِّلْتُمْ وَإِن تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلاَغُ الْمُبِين}. فثمرة طاعته صلى الله عليه وسلم الهدايةُ، هذا أولاً.
ثانياً: ثمرة طاعته صلى الله عليه وسلم الرحمةُ من الله تعالى، قال تعالى: {وَأَقِيمُوا الصَّلاَةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُون}.
ثالثاً: ثمرة طاعته صلى الله عليه وسلم الفوزُ بالنجاة من النار ودخول الجنة، قال تعالى: {وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَائِزُون}.
رابعاً: ثمرة طاعته صلى الله عليه وسلم دخول الجنة، قال تعالى: {تِلْكَ حُدُودُ اللّهِ وَمَن يُطِعِ اللّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيم}.
خامساً: ثمرة طاعته صلى الله عليه وسلم بعدَ دخول الجنة المَعيَّةُ مع الذين أنعم الله عليهم، قال تعالى: {وَمَن يُطِعِ اللّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَـئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاء وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَـئِكَ رَفِيقًا}.
عاقبة مخالفة أمر سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم:
وحذَّر الأمة من مخالفة أمره صلى الله عليه وسلم، لأن مخالفة أمره صلى الله عليه وسلم عاقبتُها وخيمةٌ، قال تعالى: {وَأَطِيعُواْ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُواْ إِنَّ اللّهَ مَعَ الصَّابِرِين}. عاقبةُ المخالفةِ الفشلُ وذهابُ القوة، ولا أدل على ذلك مما حصل يوم أحد، حيث أمر النبي صلى الله عليه وسلم الرماة أن لا يبرحوا أماكنهم كما جاء في صحيح البخاري عن البراء بن عازب رضي الله عنه، قال: (جَعَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الرَّجَّالَةِ يَوْمَ أُحُدٍ، وَكَانُوا خَمْسِينَ رَجُلاً مِنْهُم عَبْدَ اللَّهِ بْنَ جُبَيْرٍ، فَقَالَ صلى الله عليه وسلم: إِنْ رَأَيْتُمُونَا تَخْطَفُنَا الطَّيْرُ فَلا تَبْرَحُوا مَكَانَكُمْ هَذَا حَتَّى أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ، وَإِنْ رَأَيْتُمُونَا هَزَمْنَا الْقَوْمَ وَأَوْطَأْنَاهُمْ فَلا تَبْرَحُوا حَتَّى أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ، فَهَزَمُوهُمْ. قَالَ: فَأَنَا وَاللَّهِ رَأَيْتُ النِّسَاءَ يَشْتَدِدْنَ قَدْ بَدَتْ خَلاخِلُهُنَّ وَأَسْوُقُهُنَّ رَافِعَاتٍ ثِيَابَهُنَّ، فَقَالَ أَصْحَابُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جُبَيْرٍ: الْغَنِيمَةَ أَيْ قَوْمِ الْغَنِيمَةَ، ظَهَرَ أَصْحَابُكُمْ فَمَا تَنْتَظِرُونَ؟ فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ جُبَيْرٍ: أَنَسِيتُمْ مَا قَالَ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالُوا: وَاللَّهِ لَنَأْتِيَنَّ النَّاسَ فَلَنُصِيبَنَّ مِنْ الْغَنِيمَةِ.
فَلَمَّا أَتَوْهُمْ، صُرِفَتْ وُجُوهُهُمْ، فَأَقْبَلُوا مُنْهَزِمِينَ، فَذَاكَ إِذْ يَدْعُوهُمْ الرَّسُولُ فِي أُخْرَاهُمْ فَلَمْ يَبْقَ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غَيْرُ اثْنَيْ عَشَرَ رَجُلاً، فَأَصَابُوا مِنَّا سَبْعِينَ، وَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابُهُ أَصَابُوا مِنْ الْمُشْرِكِينَ يَوْمَ بَدْرٍ أَرْبَعِينَ وَمِائَةً سَبْعِينَ أَسِيرًا وَسَبْعِينَ قَتِيلاً، فَقَالَ أَبُو سُفْيَانَ: أَفِي الْقَوْمِ مُحَمَّدٌ ثَلاثَ مَرَّاتٍ، فَنَهَاهُمْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُجِيبُوهُ، ثُمَّ قَالَ: أَفِي الْقَوْمِ ابْنُ أَبِي قُحَافَةَ ثَلاثَ مَرَّاتٍ، ثُمَّ قَالَ: أَفِي الْقَوْمِ ابْنُ الْخَطَّابِ ثَلاثَ مَرَّاتٍ، ثُمَّ رَجَعَ إِلَى أَصْحَابِهِ، فَقَالَ: أَمَّا هَؤُلاءِ فَقَدْ قُتِلُوا، فَمَا مَلَكَ عُمَرُ نَفْسَهُ، فَقَالَ: كَذَبْتَ وَاللَّهِ يَا عَدُوَّ اللَّهِ، إِنَّ الَّذِينَ عَدَدْتَ لأَحْيَاءٌ كُلُّهُمْ، وَقَدْ بَقِيَ لَكَ مَا يَسُوءُكَ، قَالَ: يَوْمٌ بِيَوْمِ بَدْرٍ، وَالْحَرْبُ سِجَالٌ، إِنَّكُمْ سَتَجِدُونَ فِي الْقَوْمِ مُثْلَةً لَمْ آمُرْ بِهَا وَلَمْ تَسُؤْنِي، ثُمَّ أَخَذَ يَرْتَجِزُ: اُعْلُ هُبَلْ اُعْلُ هُبَلْ، قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَلا تُجِيبُوا لَهُ، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا نَقُولُ؟ قَالَ: قُولُوا: الله أَعْلَى وَأَجَلُّ، قَالَ: إِنَّ لَنَا الْعُزَّى وَلا عُزَّى لَكُمْ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَلا تُجِيبُوا لَهُ؟ قَالَ: قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا نَقُولُ؟ قَالَ: قُولُوا الله مَوْلانَا وَلا مَوْلَى لَكُمْ). هذا أولاً.
ثانياً: مخالفة أمره صلى الله عليه وسلم جحوداً وعناداً وإصراراً تنفي الإيمان عن مدَّعي الإيمان، قال تعالى: {وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِّنْهُم مِّن بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُوْلَئِكَ بِالْمُؤْمِنِين}. وقوله تعالى: {فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا}.
ولا أدلَّ على ذلك مما فعله سيدنا عمر رضي الله عنه، عندما اختصم رجلان إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقضى للمحقِّ على المبطل، فقال المقضيُّ عليه: لا أرضى، فقال صاحبه: فما تريد، قال: أن نذهب إلى أبي بكر الصديق، وقد ذهبا إليه فقال الذي قضي له: قد اختصمنا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقضي لي فقال أبو بكر فأنتما على ما قضى به النبي صلى الله عليه وسلم فأبى صاحبه أن يرضى، قال: فأتيا عمر بن الخطاب فأتياه فقال المقضيُّ له: قد اختصمنا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقضى لي عليه فأبى أن يرضى، ثم أتينا أبا بكر فقال أنتما على ما قضى به النبي صلى الله عليه وسلم فأبى أن يرضى، فسأله عمر، فقال: كذلك، فدخل عمر منزله وخرج والسيف في يده قد سله فضرب به رأس الذي أَبَى أَنْ يرضى فقتله، فأنزل الله تعالى: {فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا} أورده الحافظ ابن كثير في تفسيره وعزاه إلى الحافظ إبراهيم بن دحيم في تفسيره، وأورده ابن أبي حاتم في التفسير أيضاً.
ثالثاً: مخالفة أمره صلى الله عليه وسلم جحوداً وعناداً وإصراراً تبطل الأعمال الصالحة والعياذ بالله تعالى، قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَن سَبِيلِ اللَّهِ وَشَاقُّوا الرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الهُدَى لَن يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا وَسَيُحْبِطُ أَعْمَالَهُم * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلاَ تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُم}.
رابعاً: مخالفة أمره صلى الله عليه وسلم جحوداً وعناداً وإصراراً سببٌ كبيرٌ من الأسباب التي تجلب الفتنةَ للأمة والعذابَ الأليم، قال تعالى: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيم}.
فمخالفة أمره صلى الله عليه وسلم جحوداً وعناداً وإصراراً تعرضك لمحنةٍ قاسية وبلاءٍ، والواقع يصدِّق هذا، خذ على سبيل المثال. يقول صلى الله عليه وسلم: (إِذَا خَطَبَ إِلَيْكُمْ مَنْ تَرْضَوْنَ دِينَهُ وَخُلُقَهُ فَزَوِّجُوهُ، إِلا تَفْعَلُوا تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الأَرْضِ وَفَسَادٌ عَرِيضٌ) رواه الترمذي. الفتنة وقعت أم لا؟
خاتمة الموضوع:
لذلك أيها الأخوة الكرام علِّموا أولادكم وجوب طاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم، لأن ثمارَها نافعةٌ ديناً وأخرى، يقول صلى الله عليه وسلم: (كُلُّ أُمَّتِي يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ إِلا مَنْ أَبَى، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَمَنْ يَأْبَى؟ قَالَ: مَنْ أَطَاعَنِي دَخَلَ الْجَنَّةَ، وَمَنْ عَصَانِي فَقَدْ أَبَى) رواه البخاري.
علِّموا أولادكم هذا، علموهم ما قال سيدنا عبد الله بن مسعود، قال: إنَّ معاذَ بنَ جبل رضي الله عنه كان أمةً قانتاً لله حنيفاً، فقيل: إنَّ إبراهيم كان أمةً قانتاً لله حنيفاً، فقال: ما نسيت، هل تدري ما الأمة وما القانت؟ فقلت: الله أعلم. فقال الأمةُ: الذي يعلم الناس الخير. والقانتُ: المطيع لله والرسول صلى الله عليه وسلم، وكان معاذُ بنُ جبل يعلِّم الناسَ الخيرَ، وكان مطيعاً لله ورسوله صلى الله عليه وسلم.
ولعلنا في الدرس القادم نأخذ بعض النماذج من سيرة أصحاب سيدنا رسول اله صلى الله عليه وسلم الذين ضربوا أروع الأمثلة في طاعتهم لسيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم بعد ذلك نتحدث عن وجوب الاتباع بعد وجوب الطاعة، ونأخذ الأمثلة كذلك من سيرة أصحاب سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في الاتباع.
اللهم اجعل علمنا حجة لنا لا علينا يا أرحم الراحمين.
آمين. آمين. آمين.
أما بعد: فيا عباد الله، في أسماء الله تعالى الرحمن الرحيم، وهما اسمان مشتقان من الرحمة، والرحمة تستدعي مرحوماً، ولا مرحوم إلا وهو محتاج.
ورحمة الله تعالى في خلقه لا نظير له فيها، فهو يوصل إليهم المنافع والمصالح وإن كرهتها نفوسهم وشقَّت عليها، ولله المثل الأعلى فرحمة الأب بولده أن يُكْرهه على التأدب بالعلم والعمل، ويشقّ عليه في ذلك بالضرب، ويمنعه شهواته التي تعود بضرره، وإذا أهمله والده كان ذلك لقلة رحمته به، وهذه رحمة مقرونة بجهل.
ولهذا من تمام رحمة الله عز وجل تسليطُ أنواع البلاء على العبد، ففقرك من رحمة الله بك، والخوف من رحمة الله بك، والنقص من الأموال والأنفس والثمرات من رحمة الله بك.
لذلك من رحمة الله بخلقه أمْرُه لهم أن يفوِّضوا أمورهم إليه، ويتوكَّلوا عليه، وأن يرضوا بما قسمه لهم، لأنه يعلم وهم لا يعلمون قال تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تُحِبُّواْ شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ وَاللّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُون}.
أيها الإخوة: يقول الله تعالى: {وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ}. فستر عنك العيب رحمة منه بك، وأخفى الحكمة عنك رحمة منه بك، وطلب منك أن تؤمن بالقضاء والقدر خيره وشره فيما يبدو لك وأنت على يقين بأن الله تعالى أرحم بالعبد من الأم على ولدها.
ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: (عَجَباً لأَمْرِ الْمُؤْمِنِ إِنَّ أَمْرَهُ كُلَّهُ خَيْرٌ، وَلَيْسَ ذَاكَ لأَحَدٍ إِلا لِلْمُؤْمِنِ، إِنْ أَصَابَتْهُ سَرَّاءُ شَكَرَ فَكَانَ خَيْرًا لَهُ، وَإِنْ أَصَابَتْهُ ضَرَّاءُ صَبَرَ فَكَانَ خَيْرًا لَهُ) رواه مسلم.
لا شك كلُّنا يريد الخير، وكلنا حريص على الخير، وكلنا على يقين بأن مصدر الخير من عند الله عز وجل: {قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَن تَشَاء وَتَنزِعُ الْمُلْكَ مِمَّن تَشَاء وَتُعِزُّ مَن تَشَاء وَتُذِلُّ مَن تَشَاء بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَىَ كُلِّ شَيْءٍ قَدِير}. فيا مريد الخير اصبر حتى ينكشف لك الحجاب لترى الخير من وراء الابتلاء، واعتبر من قصة سيدنا موسى مع الخضر عليهما السلام، عندما خرق الخضر السفينة وقتل الغلام وبنى الجدار؟ وقال: {وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي}. فلما انكشف الحجاب كان الخير كل الخير في خرق السفينة وقتل الغلام وبناء الجدار.
واعتبر من قصة سيدنا إبراهيم عليه السلام حين بلغ الكبر وزوجته عقيم، وَهبَه الله إسماعيل عليه السلام على كبر سنه، فلما بلغ معه السعي أمره ابتلاءاً بذبحه بعد أن أحبه حب الوالد لولده، {وَاللهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُون}. فامتثل الخليل أمر ربه عز وجل فكان الخير العظيم له:
1. نجَّا الله إسماعيل من الذبح.
2. فداه بذبح عظيم.
3. بنى معه الكعبة.
4. رزقه مع إسماعيل إسحاق ومن ورائه يعقوب.
5. ولم يأت نبي بعد ذلك إلا من سلالة سيدنا إبراهيم عليه السلام.
واعتبر من قصة سيدنا يوسف عليه السلام: عندما كان يعيش في كنف أبيه الرحيمِ الشفوقِ يعقوبَ عليه السلام، يخاف عليه أن يخرج للَّعب مع إخوته، {أَرْسِلْهُ مَعَنَا غَدًا يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُون}. فإذا به يُنزع من وسط تلك الرعاية والعطف، ويفقد حنانَ الأبوة وأُنسَ الأُخوَّة، ويُلقى في الجب، وبعده يباع بثمن بخس دراهم معدودة، وبعد ذلك تتآمر النسوة عليه وخاصة امرأة العزيز، وبعد ذلك يسجن {فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِين}. فماذا كان بعد ذلك؟ كان الخير العظيم:
أولاً: منحه الله تعالى نسباً وجمالاً وشباباً {مَا هَـذَا بَشَراً إِنْ هَـذَا إِلاَّ مَلَكٌ كَرِيم}.
ثانياً: أثنى الله عليه {إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِين}.
ثالثاً: جعله الله تعالى مضرب مثل لعفاف الشباب، والخشية لله في السر.
رابعاً: مكَّنه الله تعالى {وَكَذَلِكَ مَكَّنِّا لِيُوسُفَ فِي الأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاء}. وجعل الله خزائن الأرض بيده.
خامساً: أنزل الله تعالى سورة باسمه تتلى إلى يوم القيامة.
واعتبر من قصة سيدنا زكريا عليه السلام عندما حُرم الذّرّية دهراً طويلاً إلى أن وهن العظم منه، واشتعل الرأس شيباً {قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً}. ولكنه التجأ إلى الله الذي يقول للشيء كن فيكون، التجأ إلى الله الذي يحيي العظام وهي رميم فقال تعالى: {فَهَبْ لِي مِن لَّدُنكَ وَلِيًّا * يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا}.
صبر فظفر فما هي النتيجة أيها الإخوة؟ النتيجة خير عظيم:
أولاً: {يَا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلاَمٍ اسْمُهُ يَحْيَى}. البشارة جاءته من عند الله عن طريق الملائكة وهو قائم يصلي في المحراب.
ثانياً: الله تعالى هو الذي سمى له ولده بيحيى.
ثالثاً: طمأنه الله تعالى كيف سيكون حال ابنه قبل حمل أمه فيه، قال تعالى: {فَنَادَتْهُ الْمَلآئِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَـى مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِّنَ اللّهِ وَسَيِّدًا وَحَصُورًا وَنَبِيًّا مِّنَ الصَّالِحِين}.
فيا أيها العبد المبتلى اصبر وصابر فالابتلاء من الله تعالى نعمة، وادع الله تعالى، وألحَّ في الدعاء، وكنْ على يقين من الاستجابة، واشتغل بعد ذلك بما كُلِّفْتَ به، وتذكَّرْ قولَ الله تعالى: {قَالَ قَدْ أُجِيبَت دَّعْوَتُكُمَا فَاسْتَقِيمَا وَلاَ تَتَّبِعَآنِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لاَ يَعْلَمُون}.
ولعلي أن أتابع معكم الحديث في هذا الموضوع في الأسبوع القادم إن أحيانا الله عز وجل.
أقول هذا القول وأستغفر الله العظيم لي ولكم فيا فوز المستغفرين.
** ** **
اضافة تعليق |
ارسل إلى صديق |
لِتَحْقِيقِ السَّعَادَةِ في حَيَاتِنَا الأُسَرِيَّةِ لَا بُدَّ مِنَ التَّعَامُلِ مَعَ القُرْآنِ العَظِيمِ تَعَامُلَاً صَحِيحَاً، وَهَذَا لَا يَكُونُ إِلَّا بِالتِّلَاوَةِ مَعَ التَّدَبُّرِ، قَالَ تعالى: ﴿الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ ... المزيد
كُلَّمَا تَذَكَّرْنَا يَوْمَ الحِسَابِ، يَوْمَ العَرْضِ عَلَى اللهِ تعالى، يَوْمَ نَقِفُ بَيْنَ يَدَيِ اللهِ تعالى حُفَاةً عُرَاةً غُرْلَاً، وَكُلَّمَا تَذَكَّرْنَا الجَنَّةَ وَالنَّارَ، وَنَعِيمَ أَهْلِ الجَنَّةِ، وَعَذَابَ أَهْلِ النَّارِ، ... المزيد
صَلَاحُ أُسَرِنَا لَا يَكُونُ إِلَّا إِذَا عَرَفَ كُلٌّ مِنَ الزَّوْجَيْنِ الغَايَةَ مِنْ وُجُودِهِ في هَذِهِ الحَيَاةِ الدُّنْيَا؛ الكَثِيرُ مِنَ الأَزْوَاجِ مِمَّنْ دَخَلَ الدُّنْيَا ثُمَّ خَرَجَ مِنْهَا وَهُوَ لَا يَدْرِي وَلَا يَعْلَمُ لِمَاذَا ... المزيد
القُرْآنُ العَظِيمُ الذي أَكْرَمَنَا اللهُ عَزَّ وَجَلَّ بِهِ، وَاصْطَفَانَا لِوِرَاثَتِهِ هُوَ مَصْدَرُ سَعَادَتِنَا في الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ، فَمَنْ أَرَادَ السَّعَادَةَ في حَيَاتِهِ الزَّوْجِيَّةِ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ فَعَلَيْهِ ... المزيد
إِنَّ مِنْ أَسْبَابِ شَقَاءِ البُيُوتِ، وَكَثْرَةِ الخِلَافَاتِ بَيْنَ الأَزْوَاجِ، المَعَاصِيَ وَالمُنْكَرَاتِ، التي تُنَكِّسُ الرُّؤُوسَ في الدُّنْيَا قَبْلَ الآخِرَةِ، وَالتي تُسْلِمُ إلى مُقَاسَاةِ العَذَابِ الأَلِيمِ في الدُّنْيَا قَبْلَ ... المزيد
سِرُّ سَعَادَتِنَا في حَيَاتِنَا الزَّوْجِيَّةِ القُرْآنُ العَظِيمُ، وَسِرُّ تَحَوُّلِنَا مِنَ الشَّقَاءِ إلى السَّعَادَةِ القُرْآنُ العَظِيمُ، وَسِرُّ هِدَايَتِنَا مِنَ الضَّلَالِ إلى الهُدَى القُرْآنُ العَظِيمُ، وَسِرُّ تَمَاسُكِ أُسَرِنَا ... المزيد