117- خطبة الجمعة: هل النبي    حي في قبره؟

117- خطبة الجمعة: هل النبي    حي في قبره؟

 

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:

خلاصة الخطبة الماضية

فيا عباد الله: لقد ذكرنا في الخطبة الماضية المناظرة التي جرت بين أمير المؤمنين أبي جعفر المنصور مع الإمام مالك بن أنس رحمه الله تعالى في مسجد سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأثناء المناظرة ارتفع صوت أبي جعفر المنصور، فنهاه الإمام مالك وأنكر عليه، وقال له: (يا أمير المؤمنين: لا ترفع صوتك في هذا المسجد، فإن الله تعالى أدَّب قوماً فقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلاَ تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَن تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنتُمْ لاَ تَشْعُرُون} الآية، ومدح قوماً فقال: {إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِندَ رَسُولِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيم} الآية، وذم قوماً فقال: {إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِن وَرَاء الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْقِلُون} الآية، وإن حرمته صلى الله عليه وسلم ميتاً كحرمته حياً.

سؤال وجواب:

عند ذلك توجه أمير المؤمنين أبو جعفر المنصور بالسؤال إلى الإمام مالك وقال له: أستقبل القبلة وأدعو؟ أم أستقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال له الإمام مالك: ولم تصرف وجهك عنه وهو وسيلتك ووسيلة أبيك آدم عليه السلام إلى الله تعالى يوم القيامة؟ بل استقبله واستشفع به فيشفِّعه الله، قال الله تعالى: {وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذ ظَّلَمُواْ أَنفُسَهُمْ جَآؤُوكَ فَاسْتَغْفَرُواْ اللّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُواْ اللّهَ تَوَّابًا رَّحِيمًا}.

اعتذار عن جعل هذا الموضوع خطبة الجمعة:

وسامحوني أيها الإخوة إن جعلت هذا الموضوع خطبة هذه الجمعة، لأننا أصبحنا وأمسينا نسمع من خلال أجهزة الإعلام المسموعة والمرئية، وخاصة عند زيارة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم في المواجهة الشريفة، حيث إذا وقف الزائر والمسلم على سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أتاه من يقول له: توجه إلى القبلة ولا يجوز أن تستقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم وتدعو، هذا شرك، هذا حرام ولا يجوز، ما مستندهم في ذلك؟

مستندهم في ذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد مات وانتهى كل شيء.

قَصْرُ الجدل مع هؤلاء:

أيها الإخوة: اقصروا الجدل مع هؤلاء بسؤال يتوجه إليهم: ما هو اعتقادكم في سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد انتقاله إلى الرفيق الأعلى؟ هل سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم حي في قبره أم لا؟ هل ردت إليه روحه الشريفة أم لا؟ هل يسمعنا في قبره الشريف إذا سلمنا عليه أم لا؟ هل يرد علينا السلام من قبره الشريف أم لا؟ هل هو وسيلتنا إلى الله تعالى أم لا؟

فإذا كان جوابهم بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد مات ولم ترد إليه روحه الشريفة، وأنه ليس حياً في قبره، وبالتالي فإنه لا يرانا ولا يسمعنا ولا يرد علينا السلام، فقولوا لهم: هذا شأنكم، وسوف تسألون يوم القيامة عن ذلك بين يدي الله عز وجل، لأنكم أنكرتم الكثير من الأحاديث التي وردت عن سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك، بل والآيات الكريمة من القرآن العظيم.

الحياة البرزخية ثابتة بنص القرآن والحديث الشريف لجميع الخلق:

أيها الإخوة: اعتقادنا نحن بأن الحياة البرزخية ثابتة لجميع خلق الله عز وجل بنص القرآن الكريم، وبالأحاديث الصحيحة الشريفة.

الأدلة من القرآن العظيم على الحياة البرزخية:

أولاً: قوله تعالى: {يُثَبِّتُ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللّهُ مَا يَشَاء}. تثبيتهم في الحياة الدنيا هو حفظ الله تعالى لهم من الزيغ والميل إلى الضلال، وأما تثبيتهم في الآخرة حين يسألون في قبورهم، كما جاء في الصحيحين عَنْ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (إِنَّ الْمُسْلِمَ إِذَا سُئِلَ فِي الْقَبْرِ فَشَهِدَ أَنْ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَذَلِكَ قَوْلُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ}.

ثانياً: قوله تعالى: {وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَاب * النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَاب}. وهذا العرض حصراً في عالم البرزخ، لأنه ليس في عالم الدنيا قولاً واحداً، وكذلك ليس في الآخرة، وذلك لقوله تعالى: { وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَاب}.

أما الأدلة من السنة المطهرة على الحياة البرزخية:

أولاً: ما رواه الشيخان عَنْ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (إِنَّ أَحَدَكُمْ إِذَا مَاتَ عُرِضَ عَلَيْهِ مَقْعَدُهُ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ، إِنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ فَمِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ، وَإِنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ النَّارِ فَمِنْ أَهْلِ النَّارِ، يُقَالُ: هَذَا مَقْعَدُكَ حَتَّى يَبْعَثَكَ اللَّهُ إِلَيْهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ).

هل العرض هذا يكون على ميت أم حي؟ وطبعاً الحياة البرزخية لا يعلم حقيقتها إلا الله تعالى.

ثانياً: روى الشيخان واللفظ للبخاري عن أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ نَبِيُّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (إِنَّ الْعَبْدَ إِذَا وُضِعَ فِي قَبْرِهِ وَتَوَلَّى عَنْهُ أَصْحَابُهُ إِنَّهُ لَيَسْمَعُ قَرْعَ نِعَالِهِمْ، قَالَ: يَأْتِيهِ مَلَكَانِ فَيُقْعِدَانِهِ فَيَقُولانِ لَهُ: مَا كُنْتَ تَقُولُ فِي هَذَا الرَّجُلِ؟ قَالَ: فَأَمَّا الْمُؤْمِنُ فَيَقُولُ: أَشْهَدُ أَنَّهُ عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ، قَالَ: فَيُقَالُ لَهُ: انْظُرْ إِلَى مَقْعَدِكَ مِنْ النَّارِ، قَدْ أَبْدَلَكَ اللَّهُ بِهِ مَقْعَدًا مِنْ الْجَنَّةِ، قَالَ نَبِيُّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فَيَرَاهُمَا جَمِيعًا).

هل هذا السماع والسؤال والجواب والعرض هل يكون من حي أم ميت؟

ثالثاً: روى الإمام مسلم عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَرَكَ قَتْلَى بَدْرٍ ثَلاثًا، ثُمَّ أَتَاهُمْ فَقَامَ عَلَيْهِمْ فَنَادَاهُمْ فَقَالَ: يَا أَبَا جَهْلِ بْنَ هِشَامٍ، يَا أُمَيَّةَ بْنَ خَلَفٍ، يَا عُتْبَةَ بْنَ رَبِيعَةَ، يَا شَيْبَةَ بْنَ رَبِيعَةَ، أَلَيْسَ قَدْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا؟ فَإِنِّي قَدْ وَجَدْتُ مَا وَعَدَنِي رَبِّي حَقًّا، فَسَمِعَ عُمَرُ قَوْلَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ كَيْفَ يَسْمَعُوا وَأَنَّى يُجِيبُوا وَقَدْ جَيَّفُوا؟ قَالَ: وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ مَا أَنْتُمْ بِأَسْمَعَ لِمَا أَقُولُ مِنْهُمْ، وَلَكِنَّهُمْ لا يَقْدِرُونَ أَنْ يُجِيبُوا، ثُمَّ أَمَرَ بِهِمْ فَسُحِبُوا فَأُلْقُوا فِي قَلِيبِ بَدْرٍ). فما معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم: (وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ مَا أَنْتُمْ بِأَسْمَعَ لِمَا أَقُولُ مِنْهُمْ)؟

فالميت يسمع كما يسمع الحي، ولكنَّ حياته في البرزخ ليست كحياتنا في الدنيا.

هذا فضلاً عن حياة الشهداء:

أيها الإخوة: هذا الذي ذكرت فضلاً عن حياة الشهداء التي ثبتت في القرآن العظيم والسنة المطهرة، قال تعالى: {وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاء عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُون}. بل نهانا الله تعالى أن نقول عنهم أمواتاً، وذلك بقوله تعالى: {وَلاَ تَقُولُواْ لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبيلِ اللّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاء وَلَكِن لاَّ تَشْعُرُون}.

وروى الطبراني في الكبير عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بن عُمَرَ رضي الله عنهما، قَالَ: مَرَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى مُصْعَبِ بن عُمَيْرٍ حِينَ رَجَعَ مِنْ أُحُدٍ، فَوَقَفَ عَلَيْهِ وَعَلَى أَصْحَابِهِ، فَقَالَ: (أَشْهَدُ أَنَّكُمْ أَحْيَاءُ عِنْدَ اللَّهِ فَرُدُّوهُمْ وَصَلُّوا عَلَيْهِمْ، فَوَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لا يُسَلِّمُ عَلَيْهِمْ إِلا رَدُّوا عَلَيْهِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ).

وفي رواية أخرى عن عبد الله بن عمر رضي الله عنه قال: (مر رسول الله صلى الله عليه وسلم على مصعب بن عمير ، حين رجع من أحد، فوقف عليه وعلى أصحابه فقال: (أشهد أنكم أحياء عند الله، فزوروهم وسلموا عليهم، فوالذي نفس محمد بيده لا يسلم عليهم أحد إلا ردوا إلى يوم القيامة) أخرجه الطبراني وأبو نعيم في الحلية.

زيارة القبور:

أيها الإخوة: زيادة على ما ذكرنا، النبي صلى الله عليه وسلم شرع لنا زيارة القبور فقال: (إِنِّي كُنْتُ نَهَيْتُكُمْ عَنْ زِيَارَةِ الْقُبُورِ فَزُورُوهَا فَإِنَّهَا تُذَكِّرُ الآخِرَةَ) رواه مسلم. وكان النبي صلى الله عليه وسلم يزور الموتى كما جاء في صحيح مسلم عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها أَنَّهَا قَالَتْ: (كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كُلَّمَا كَانَ لَيْلَتُهَا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَخْرُجُ مِنْ آخِرِ اللَّيْلِ إِلَى الْبَقِيعِ، فَيَقُولُ: السَّلامُ عَلَيْكُمْ دَارَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ، وَأَتَاكُمْ مَا تُوعَدُونَ، غَدًا مُؤَجَّلُونَ، وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ بِكُمْ لاحِقُونَ، اللَّهُمَّ اغْفِرْ لأَهْلِ بَقِيعِ الْغَرْقَدِ).

فقوله صلى الله عليه وسلم: (السَّلَامُ عَلَيْكُمْ) لو لم يسمع الموتى السلام فما معنى هذا السلام؟ ومن الذي يسمع؟

وروى الترمذي عَنْ عبد الله ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: مَرَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقُبُورِ الْمَدِينَةِ فَأَقْبَلَ عَلَيْهِمْ بِوَجْهِهِ فَقَالَ: (السَّلامُ عَلَيْكُمْ يَا أَهْلَ الْقُبُورِ، يَغْفِرُ اللَّهُ لَنَا وَلَكُمْ أَنْتُمْ سَلَفُنَا وَنَحْنُ بِالأَثَرِ).

وروى البيهقي عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذَا مَرَّ الرَّجُلُ بِقَبْرٍ يَعْرِفُهُ فَيُسَلِّمُ عَلَيْهِ رَدَّ عَلَيْهِ السَّلامُ وَعَرَفَهُ، وَإِذَا مَرَّ بِقَبْرٍ لا يَعْرِفُهُ رَدَّ عَلَيْهِ السَّلامُ).

هل السيدة عائشة رضي الله عنها مبتدعة؟

أيها الإخوة: هذه أمنا السيدة عائشة رضي الله عنها تقول: (كُنْتُ أَدْخُلُ بَيْتِي الَّذِي دُفِنَ فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبِي، فَأَضَعُ ثَوْبِي، فَأَقُولُ: إِنَّمَا هُوَ زَوْجِي وَأَبِي، فَلَمَّا دُفِنَ عُمَرُ مَعَهُمْ، فَوَاللَّهِ مَا دَخَلْتُ إِلا وَأَنَا مَشْدُودَةٌ عَلَيَّ ثِيَابِي، حَيَاءً مِنْ عُمَرَ) رواه الحاكم وأحمد.

فهل كانت مبتدعة؟ لماذا عندما توفي سيدنا عمر رضي الله عنه ودفن بجانب النبي صلى الله عليه وسلم صارت تشدُّ على نفسها الثياب؟ وما معنى قولها: (حَيَاءً مِنْ عُمَرَ) لو لم تكن تعتقد بأنه يراها، وما معنى قولها: (فَأَضَعُ ثَوْبِي، فَأَقُولُ: إِنَّمَا هُوَ زَوْجِي وَأَبِي) لو لم تعتقد أنهما يريانها؟

اعتقادنا بأن النبي صلى الله عليه وسلم حي في قبره:

أيها الإخوة: بعد هذا الذي ذكرت أقول: اعتقادنا بأن سيدنا رسول صلى الله عليه وسلم حي في قبره ـ والله تعالى أعلم بحقيقة هذه الحياة ـ وأنه يسمعنا ويرانا إذا كنا في المواجهة الشريفة، وأن أعمالنا تعرض على جنابه الشريف صلى الله عليه وسلم كما جاء في الأحاديث الشريفة:

أولاً: سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم حي في قبره الشريف وإني أرجو الله عز وجل أن يجعل حُبَّه حياً في قلوبنا، وذلك لقوله صلى الله عليه وسلم: (مَرَرْتُ عَلَى مُوسَى لَيْلَةَ أُسْرِيَ بِي عِنْدَ الْكَثِيبِ الأَحْمَرِ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي قَبْرِهِ) رواه مسلم.

إذا كان هذا في حق الأنبياء عليهم السلام فكيف بسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم؟ وخاصة بعد أن ثبت في الحديث الصحيح الذي أخرجه الإمام مسلم بأنه صلى الله عليه وسلم مات من أثر السم، (فهذا أوان وجدت انقطاع أبهري من ذلك السم).

الأبهر: هو عرق مستبطن الصلب متصل بالقلب فإذا انقطع مات صاحبه.

ألا يعتبر النبي صلى الله عليه وسلم شهيداً؟ وإذا ثبت استشهاده ألم يقل الله عز وجل في حق الشهداء أنهم أحياء؟

ثانياً: سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يسمع سلام من يسلم عليه من أمته، لأنه إذا ثبت السماع لغيره كما تقدم معنا من الأحاديث فهو صلى الله عليه وسلم من باب أولى وأولى.

يقول صلى الله عليه وسلم: (حَيْثُمَا كُنْتُمْ فَصَلُّوا عَلَيَّ ، فَإِنَّ صَلاتَكُمْ تَبْلُغُنِي) رواه الطبراني. ويقول صلى الله عليه وسلم: (مَا مِنْ أَحَدٍ يُسَلِّمُ عَلَيَّ إِلا رَدَّ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عَلَيَّ رُوحِي حَتَّى أَرُدَّ عَلَيْهِ السَّلامَ) رواه أحمد. فهو صلى الله عليه وسلم يسمع السلام ويردُّه على المسلِّم، ويقول صلى الله عليه وسلم: (من صلى علي عند قبري سمعته، ومن صلى علي نائياً أبلغته) رواه البيهقي.

ثالثاً: سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يرى وهو في قبره الشريف، كما تقدَّم معنا من حديث السيدة عائشة رضي الله عنها.

رابعاً: سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم تعرض عليه أعمالنا، عن عبد الله المزني رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (حياتي خير لكم تحدثون ويحدث لكم، ووفاتي خير لكم تعرض علي أعمالكم، فما كان من حسن حمدت الله عليه، وما كان من سيئ استغفرت الله لكم) رواه البزار في مسنده.

فيا أيها الزائر لجنابه الشريف صلى الله عليه وسلم!

أيها الإخوة الكرام، بعد هذا الذي ذكرنا أقول: فيا أيها الزائر لجنابه الشريف اعلم بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم حي في قبره يسمعك ويراك ويردُّ عليك السلام، فإذا ما قدمت إليه فاستقبل الوجه الشريف، وسلِّم عليه وادع الله تعالى وأنت في حضرته مستقبلاً الوجه الشريف، لأنه من قدم على حي لا يعطيه ظهره.

ثم توسَّل إلى الله تعالى به صلى الله عليه وسلم، وكما قال الإمام مالك رحمه الله تعالى، فهو وسيلتنا إلى الله تعالى يوم القيامة كما كان وسيلتنا إلى الله تعالى في الدنيا، كم توسل به الصحب الكرام رضي الله عنهم؟ وسوف يتوسل به البشر والأنبياء يوم القيامة كما جاء في الحديث الصحيح حديث الشفاعة الذي رواه مسلم، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ مَاجَ النَّاسُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ، فَيَأْتُونَ آدَمَ فَيَقُولُونَ: لَهُ اشْفَعْ لِذُرِّيَّتِكَ، فَيَقُولُ: لَسْتُ لَهَا وَلَكِنْ عَلَيْكُمْ بِإِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلام فَإِنَّهُ خَلِيلُ اللَّهِ، فَيَأْتُونَ إِبْرَاهِيمَ فَيَقُولُ: لَسْتُ لَهَا وَلَكِنْ عَلَيْكُمْ بِمُوسَى عَلَيْهِ السَّلام فَإِنَّهُ كَلِيمُ اللَّهِ، فَيُؤْتَى مُوسَى فَيَقُولُ: لَسْتُ لَهَا وَلَكِنْ عَلَيْكُمْ بِعِيسَى عَلَيْهِ السَّلام فَإِنَّهُ رُوحُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ، فَيُؤتَى عِيسَى فَيَقُولُ: لَسْتُ لَهَا وَلَكِنْ عَلَيْكُمْ بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأُوتَى فَأَقُولُ: أَنَا لَهَا).

سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم قال لأمته في الدنيا: (إِذَا سَأَلْتَ فَاسْأَل اللَّه ، وَإِذَا اسْتَعَنْتَ فَاسْتَعِنْ بِاللَّهِ) رواه الترمذي وقال: حديث حسن صحيح، فيقول لهم في أرض المحشر (أنا لها...) لماذا لم يقل لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: (سلوا الله)؟

فإذا ثبت جواز التوسل في الحياة الدنيا وثبت في الحياة الآخرة، فهو ثابت في الحياة البرزخية لأنه صلى الله عليه وسلم حي في قبره الشريف.

خاتمة نسأل الله تعالى حسنها:

أيها الإخوة: وأخيراً قولوا لهؤلاء: ماذا تعتقدون بسيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في قبره الشريف هل هو حي حياة برزخية لا يعلمها إلا الله أم لا؟

هل رُدَّت عليه روحه الشريفة أم لا؟

هل يردُّ السلام على من يسلِّم عليه من أمته أم لا؟

هل هو وسيلتكم إلى الله تعالى أم لا؟

لا أظن أيها الإخوة: أن جوابكم يأتي بالنفي، لأنه لا مجال لإنكار الأحاديث.

فإن قالوا لكم: من آداب الدعاء استقبال القبلة، فنقول لهم: نعم، ولكن ليس في كل وقت، خطيب الجمعة عندما يدعو يدعو الله وهو مستقبل وجوه الناس، وكذلك الإمام إذا انتهى من صلاته، وكذلك كثير من الأدعية المسنونة لا يشترط فيها التوجه إلى القبلة، عندما تدعو الله عند خروجك من البيت وعند دخولك فيه، وعند دخول المسجد وعند الخروج منه.... وهكذا.

وقولوا لهم أخيراً: فنحن نعتقد كما تعتقدون بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم حيٌّ في قبره الشريف، فلا نملك أن نستقبل القبلة الشريفة ونحن في حضرته، لأنه صلى الله عليه وسلم أعظم عند الله من الكعبة الشريفة، فلا تنكروا علينا بدون دليل، ونحن لا ننكر على من استقبل القبلة في المواجهة الشريف.

ونقول لهم: لا تقولوا لنا هذا ما فعله الصحابة رضي الله عنهم، فنقول لهم، الترك ليس حجة في التحريم كما يعلم هذا الفقهاء والعلماء.

أقول هذا القول وكل منا يستغفر الله فيا فوز المستغفرين.

**     **     **

 

 2009-05-15
 5698
الشيخ أحمد شريف النعسان
الملف المرفق
 
 

التعليقات [ 1 ]

محمد
 2009-05-27

الحمد لله العلي العظيم والصلاة والسلام على محمد سيد المرسلين وجزى الله عني وعن المسلمين علماءنا ومشايخنا كل خير إلى يوم الدين ووفقنا الله جميعاً إلى ما يحبه ويرضاه.

 

مواضيع اخرى ضمن  خطب الجمعة

04-10-2024 1488 مشاهدة
929ـ خطبة الجمعة: الأدب مع الله قلبًا ولسانًا وأركانًا

إِنَّ أَعْلَى مَرَاتِبِ الأَدَبِ الأَدَبُ مَعَ اللهِ تعالى، بَلْ هُوَ أَصْلُ كُلِّ أَدَبٍ، وَالأَدَبُ مَعَ اللهِ تعالى هُوَ حُسْنُ الانْقِيَادِ لِأَوَامِرِهِ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا، مَعَ تَعْظِيمِهِ وَإِجْلَالِهِ وَالحَيَاءِ مِنْهُ تَبَارَكَ وتعالى. ... المزيد

 04-10-2024
 
 1488
27-09-2024 1075 مشاهدة
928ـ خطبة الجمعة: الآداب المطلوبة من كل مسلم

لَقَدْ جَاءَ سَيِّدُنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ بِرِسَالَةٍ مِنْ عِنْدِ مَوْلَانَا عَزَّ وَجَلَّ، وَهَذَا مِنْ تَكْرِيمِ اللهِ تعالى لِخَلْقِهِ، وَقَدْ عَلَّمَنَا كَيْفَ نَتَأَدَّبُ مَعَ حَبِيبِهِ ... المزيد

 27-09-2024
 
 1075
20-09-2024 919 مشاهدة
927ـ خطبة الجمعة: الأدب معه صلى الله عليه وسلم

مَنْ قَرَأَ القُرْآنَ العَظِيمَ بِتَدَبُّرٍ وَإِنْصَافٍ، فَإِنَّهُ يَجِدُ مَوْلَانَا عَزَّ وَجَلَّ يَدْعُو جَمِيعَ العُقَلَاءِ مِنْ بَنِي الإِنْسَانِ إلى الأَدَبِ مَعَ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ ... المزيد

 20-09-2024
 
 919
13-09-2024 1041 مشاهدة
926ـ خطبة الجمعة: سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في القرآن العظيم (2)

العَارُ كُلُّ العَارِ أَنْ لَا يَعْرِفَ الإِنْسَانُ المُسْلِمُ سَيِّدَنَا رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، وَمَنْ عَرَفَهُ حَقَّ المَعْرِفَةِ لَمْ يَرْتَبْ وَلَمْ يَشُكَّ في صِدْقِهِ وَفي صِدْقِ مَا جَاءَ ... المزيد

 13-09-2024
 
 1041
07-09-2024 1387 مشاهدة
925ـ خطبة الجمعة: سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في القرآن العظيم (1)

لَقَدْ وَهَبَ رَبُّنَا عَزَّ وَجَلَّ البَشَرِيَّةَ حَيَاةَ سَعَادَةٍ مُتَجَدِّدَةٍ، وَرُوحًا نَاضِرَةً، وَذَلِكَ بِظُهُورِ سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا، وَدَاعِيًا ... المزيد

 07-09-2024
 
 1387
29-08-2024 1064 مشاهدة
924ـ خطبة الجمعة: فقد العلماء مصيبة كبرى

العُلَمَاءُ العَامِلُونَ الرَّبَّانِيُّونَ نُجُومٌ جَعَلَهُمُ اللهُ تعالى هِدَايَةً لِمَنْ أَرَادَ سَلَامَةَ الدِّينِ وَالدُّنْيَا وَالآخِرَةِ، العُلَمَاءُ العَامِلُونَ هُمْ شُهَدَاءُ اللهِ المَرْضِيُّونَ، أَشْهَدَهُمْ عَلَى أَعْظَمِ مَشْهُودٍ ... المزيد

 29-08-2024
 
 1064

البحث في الفتاوى

الفتاوى 5629
المقالات 3193
المكتبة الصوتية 4861
الكتب والمؤلفات 20
الزوار 418280610
جميع الحقوق محفوظة لموقع الشيخ أحمد النعسان © 2024 
برمجة وتطوير :