692ـ خطبة الجمعة: النفس بلا إيمان مضطربة

692ـ خطبة الجمعة: النفس بلا إيمان مضطربة

692ـ خطبة الجمعة: النفس بلا إيمان مضطربة

مقدمة الخطبة:

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

أما بعد، فَيَا عِبَادَ اللهِ: وَاللهِ الذي لَا إلَهَ إِلَّا هُوَ، لَا يُسْعِدُ النَّفْسَ، وَلَا يُزَكِّيهَا، وَلَا يُطَهِّرُهَا، وَلَا يُذْهِبُ هَمَّهَا وَغَمَّهَا وَقَلَقَهَا وَاضْطِرَابَهَا، وَيَسُدُّ جُوعَهَا وَظَمَأَهَا إِلَّا الإِيمَانُ بِاللهِ تعالى رَبِّ العَالَمِينَ، وَالعَمَلُ الصَّالِحُ.

فَالإِيمَانُ وَالعَمَلُ الصَّالِحُ هُوَ بَلْسَمُ الحَيَاةِ، وَمِفْتَاحُ السَّعَادَةِ، وَسِرُّ الحَيَاةِ الطَّيِّبَةِ، قَالَ تعالى: ﴿مَنْ عَمِلَ صَالِحَاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾.

هَذَا قَرَارُ أَصْدَقِ الصَّادِقِينَ، وَأَحْكَمِ الحَاكِمِينَ، وَهُوَ خَبَرُ اليَقِينِ، وَعِلْمُ اليَقِينِ، بَلْ هُوَ حَقُّ اليَقِينِ، مَنْ عَمِلَ صَالِحَاً بَعْدَ الإِيمَانِ لَا بُدَّ أَنْ يُحْيِيَهُ اللهُ تعالى حَيَاةً طَيِّبَةً ﴿وَعْدَ اللهِ لَا يُخْلِفُ اللهُ وَعْدَهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ﴾.

لَقَدْ أَخْطَأَ مَنْ ظَنَّ أَنَّ الحَيَاةَ الطَّيِّبَةَ في المَأْكَلِ، وَالمَشْرَبِ، وَالمَلْبَسِ، وَالمَرْكَبِ، وَالمَسْكَنِ، وَلَذَّةِ السِّيَادَةِ وَالرِّيَادَةِ، وَالتَّفَنُّنِ بِأَنْوَاعِ الشَّهَوَاتِ وَالمَلَذَّاتِ.

النَّفْسُ بِلَا إِيمَانٍ مُضْطَرِبَةٌ:

يَا عِبَادَ اللهِ: النَّفْسُ بِلَا إِيمَانٍ مُضْطَرِبَةٌ حَائِرَةٌ مُتَبَرِّمَةٌ قَلِقَةٌ تَائِهَةٌ خَائِفَةٌ، العَبْدُ بِلَا إِيمَانٍ يَنْزِلُ إلى دَرَكِ البَهَائِمِ ﴿أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ﴾.

العَبْدُ بِلَا إِيمَانٍ يَكُونُ أَسْوَأَ المَخْلُوقَاتِ حَظَّاً في الحَيَاةِ الدُّنْيَا، وَيَكُونُ أَدْنَى رُتْبَةً في سُلَّمِ المَخْلُوقَاتِ، يَكُونُ أَذَلَّ البَهَائِمِ، وَأَشْرَسَ الضَّوَارِي، فَالبَهَائِمُ تَجُوعُ كَمَا يَجُوعُ هَذَا العَبْدُ، وَلَكِنَّهَا لَا تُفَكِّرُ في هَمِّ الرِّزْقِ، وَلَا تُفَكِّرُ في خَوْفِ الفَقْرِ، وَلَا في ذُلِّ السُّؤَالِ.

الإِيمَانُ بِاللهِ تعالى يَمْلَأُ القَلْبَ يَقِينَاً:

يَا عِبَادَ اللهِ: إِنَّ الإِيمَانَ بِاللهِ تعالى مَعَ العَمَلِ الصَّالِحِ يَمْلَأُ القَلْبَ يَقِينَاً بِوَعْدِ اللهِ تعالى الذي لَا يُخْلَفُ ﴿مَنْ عَمِلَ صَالِحَاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾.

فَالحَيَاةُ الطَّيِّبَةُ بِالإِيمَانِ وَالعَمَلِ الصَّالِحِ، الحَيَاةُ الطَّيِّبَةُ بِشَرْحِ الصَّدْرِ للإِسْلَامِ ﴿فَمَنْ يُرِدِ اللهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقَاً حَرَجَاً﴾. فَأَيُّ نَعِيمٍ أَطْيَبُ مِنْ شَرْحِ الصَّدْرِ؟! وَأَيُّ عَذَابٍ أَشَدُّ مِنْ ضِيقِ الصَّدْرْ؟!

وَصَدَقَ اللهُ تعالى القَائِلُ: ﴿أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ * الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ * لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ لَا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ﴾. فَالمُؤْمِنُ العَامِلُ هُوَ أَطْيَبُ النَّاسِ عَيْشَاً، وَأَنْعَمُهُمْ بَالَاً، وَأَشْرَحُهُمْ صَدْرَاً.

يَا عِبَادَ اللهِ: كُونُوا عَلَى يَقِينٍ بِأَنَّ البَلَاءَ للمُؤْمِنِ العَامِلِ لَا يُنَافِي سَعَادَتَهُ في الحَيَاةِ الدُّنْيَا، وَلَا يُنَافِي حَيَاتَهُ الطَّيِّبَةَ، لِأَنَّهُ عَلَى يَقِينٍ بِأَنَّ البَلَاءَ سَبَبٌ لِتَكْفِيرِ سَيِّئَاتِهِ وَرَفْعِ دَرَجَاتِهِ، فَهُوَ مُرْتَاحٌ مُطْمَئِنُّ القَلْبِ بِقَوْلِهِ تعالى: ﴿قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللهُ لَنَا هُوَ مَوْلَانَا وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ﴾. وَبِقَوْلِهِ تعالى: ﴿فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئَاً وَيَجْعَلَ اللهُ فِيهِ خَيْرَاً كَثِيرَاً﴾.

نَعَمْ، الحَيَاةُ الطَّيِّبَةُ عِنْدَ المُؤْمِنِ العَامِلِ، هِيَ القَنَاعَةُ، هِيَ الرِّزْقُ الحَلَالُ، هِيَ حَلَاوَةُ الطَّاعَةِ، هِيَ الرِّضَا عَنِ اللهِ تعالى في قَضَائِهِ وَقَدَرِهِ، وَمَا أَرْوَعَ الحَيَاةَ الطَّيِّبَةَ التي جَسَّدَهَا سَيِّدُنَا سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، عِنْدَمَا فَقَدَ بَصَرَهُ آخِرَ حَيَاتِهِ.

جَاءَ في مَدَارِجِ السَّالِكِينَ: لَمَّا قَدِمَ سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ إِلَى مَكَّةَ ـ وَقَدْ كُفَّ بَـصَرُهُ ـ جَعَلَ النَّاسُ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ لِيَدْعُوَ لَهُمْ؛ فَجَعَلَ يَدْعُو لَهُمْ.

قَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ السَّائِبِ: فَأَتَيْتُهُ وَأَنَا غُلَامٌ، فَتَعَرَّفْتُ إِلَيْهِ، فَعَرَفَنِي.

فَقُلْتُ: يَا عَمُّ، أَنْتَ تَدْعُو لِلنَّاسِ فَيُشْفَوْنَ، فَلَوْ دَعَوْتَ لِنَفْسِكَ لَرَدَّ اللهُ عَلَيْكَ بَصَرَكَ.

فَتَبَسَّمَ؛ ثُمَّ قَالَ: يَا بُنَيَّ، قَضَاءُ اللهِ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ بَصَرِي.

خَاتِمَةٌ ـ نَسْأَلُ اللهَ تعالى حُسْنَ الخَاتِمَةَ ـ:

يَا عِبَادَ اللهِ: الإِيمَانُ بِاللهِ تعالى مَعَ العَمَلِ الصَّالِحِ يَجْعَلُ القَلْبَ مُطْمَئِنَّاً غَيْرَ مُضْطَرِبٍ، قَالَ تعالى: ﴿الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللهِ أَلَا بِذِكْرِ اللهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ﴾. وَهَلْ هُنَاكَ أَسْعَدُ مِمَّنِ اطْمَأَنَّ قَلْبُهُ؟

هَلْ هُنَاكَ حَيَاةٌ أَطْيَبُ مِمَّنِ انْدَرَجِ تَحْتَ قَوْلِهِ تعالى: ﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَآمَنُوا بِمَا نُزِّلَ عَلَى مُحَمَّدٍ وَهُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ﴾؟

هَلْ هُنَاكَ حَيَاةٌ أَطْيَبُ مِمَّنِ انْدَرَجِ تَحْتَ قَوْلِهِ تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ * نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ * نُزُلَاً مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ﴾.

نَسْأَلُكَ يَا رَبَّنَا إِيمَانَاً يُبَاشِرُ قُلُوبَنَا، وَيَقِينَاً صَادِقَاً حَتَّى نَعْلَمَ أَنَّهُ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا كَتَبْتَهُ لَنَا يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ. آمين.

أقول هذا القول، وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

**    **    **

تاريخ الخطبة:

الجمعة: 6/ جمادى الآخرة /1441هـ، الموافق: 31/ كانون الثاني / 2020م

 2020-01-31
 4677
الملف المرفق
 
 
 

مواضيع اخرى ضمن  خطب الجمعة

17-05-2024 171 مشاهدة
914ـ خطبة الجمعة: مهمة المسلم الإصلاح (1)

إِنَّ مُهِمَّةَ العَبْدِ المُؤْمِنِ العِبَادَةُ، وَمِنْ هَذِهِ العِبَادَةِ الإِصْلَاحُ، قَالَ تعالى حِكَايَةً عَلَى لِسَانِ سَيِّدِنَا شُعَيْبٍ عَلَيْه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: ﴿إِنْ أُرِيدُ إِلا الإِصْلاَحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي ... المزيد

 17-05-2024
 
 171
10-05-2024 341 مشاهدة
913ـ خطبة الجمعة: آثار الحج على النفس (4)

فَرِيضَةُ الحَجِّ ثَابِتَةٌ بِنَصِّ الكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَبِالإِجْمَاعِ، وَيَقُولُ اللهُ تعالى: ﴿وَللهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ﴾. ... المزيد

 10-05-2024
 
 341
02-05-2024 581 مشاهدة
912ـ خطبة الجمعة: آثار الحج على النفس (3)

الحَجُّ شَعِيرَةٌ عَظِيمَةٌ مِنْ شَعَائِرِ دِينِنَا العَظِيمِ، فَرَضَهُ اللهُ تعالى عَلَى عِبَادِهِ المُؤْمِنِينَ مَرَّةً في العُمُرِ، لِقَوْلِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ ـ عِنْدَمَا سُئِلَ عَنِ الإِسْلَامِ ـ: ... المزيد

 02-05-2024
 
 581
26-04-2024 538 مشاهدة
911ـ خطبة الجمعة: آثار الحج على النفس (2)

لَقَدْ أَكْمَلَ اللهُ تعالى وَأَتَمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْنَا بِهَذَا الدِّينِ الحَنِيفِ، وَعَظُمَتْ نِعْمَةُ اللهِ تعالى عَلَيْنَا إِذْ فَرَضَ عَلَيْنَا الحَجَّ في العُمُرِ مَرَّةً وَاحِدَةً، للمُسْتَطِيعِ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ، وَمِنَ ... المزيد

 26-04-2024
 
 538
19-04-2024 834 مشاهدة
910ـ خطبة الجمعة: آثار الحج على النفس (1)

أَتَوَجَّهُ إلى السَّادَةِ حُجَّاجِ بَيْتِ اللهِ الحَرَامِ، لِأَقُولَ لَهُمْ: هَنيئًا لَكُمْ يَا مَنْ لَبَّيْتُمْ أَمْرَ اللهِ تعالى القَائِلِ: ﴿وَللهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللهَ ... المزيد

 19-04-2024
 
 834
12-04-2024 1555 مشاهدة
909ـ خطبة الجمعة: تعزية لمن أصيب بدينه

إِنَّ مِنْ أَعْظَمِ المَصَائِبِ مُصِيبَةَ الدِّينِ، لِأَنَّهُ مَهْمَا عَظُمَتْ مَصَائِبُ الدُّنْيَا فَسَوْفَ تَنْقَضِي، وَرُبَّمَا يُجْبَرُ صَاحِبُهَا وَيُعَوِّضُ مَا فَاتَهُ، أَمَّا مُصِيبَةُ الدِّينِ فَإِنَّهَا تَذْهَبُ بِسَعَادَةِ العَبْدِ ... المزيد

 12-04-2024
 
 1555

البحث في الفتاوى

الفتاوى 5613
المقالات 3165
المكتبة الصوتية 4802
الكتب والمؤلفات 20
الزوار 414949512
جميع الحقوق محفوظة لموقع الشيخ أحمد النعسان © 2024 
برمجة وتطوير :