704ـ خطبة الجمعة: يا من أراد الله والدار الآخرة

704ـ خطبة الجمعة: يا من أراد الله والدار الآخرة

704ـ خطبة الجمعة: يا من أراد الله والدار الآخرة

مقدمة الخطبة:

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

أَمَّا بَعْدُ، فَيَا عِبَادَ اللهِ: كُلُّ عَامِلٍ في هَذِهِ الحَيَاةِ الدُّنْيَا لَهُ هَدَفٌ يُرِيدُ الوُصُولَ إِلَيْهِ، وَكُلُّ مُجْتَهِدٍ في هَذِهِ الحَيَاةِ الدُّنْيَا الفَانِيَةِ لَهُ غَايَةٌ يُرِيدُ أَنْ يَصِلَ إِلَيْهَا.

وَقِيمَةُ كُلِّ إِنْسَانٍ مِنْ قِيمَةِ هَدَفِهِ وَغَايَتِهِ، فَكُلَّمَا كَانَ الهَدَفُ وَالغَايَةُ سَامِيَينِ كَانَ الإِنْسَانُ سَامِيًا، وَكُلَّمَا كَانَ الهَدَفُ وَالغَايَةُ صَغِيرَيْنِ كَانَ الإِنْسَانُ صَغِيرًا.

النَّاسُ عَلَى قِسْمَيْنِ:

يَا عِبَادَ اللهِ: النَّاسُ في هَذِهِ الحَيَاةِ الدُّنْيَا عَلَى قِسْمَيْنِ:

القِسْمُ الأَوَّلُ: أَرَادَ الحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا وَزَخَارِفَهَا وَبَهَارِجَهَا، أَرَادَ الحَيَاةَ الدُّنْيَا المُزَيَّنَةَ للنَّاسِ، كَمَا قَالَ تعالى: ﴿زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا واللهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ﴾.

هَذَا القِسْمُ جَعَلَ الحَياةَ الدُّنْيَا هَدَفَهُ وَغَايَتَهُ، فَكَانَتْ قِيمَتُهُ مُستَمَدَّةً مِنْ قِيمَةِ هَدَفِهِ وَغَايَتِهِ.

القِسْمُ الثَّانِي: أَرَادَ اللهَ تعالى وَالدَّارَ الآخِرَةَ وَنَعِيمَهَا، وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا.

وَبِمَا أَنَّ الجَمِيعَ عَبِيدٌ للهِ عَزَّ وَجَلَّ، فَرَبُّنَا عَزَّ وَجَلَّ يُمِدُّ كُلًّا مِنَ القِسْمَيْنِ، قَالَ تعالى: ﴿مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلَاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا * وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا * كُلًّا نُمِدُّ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا﴾.

يَا عِبَادَ اللهِ: مَآلُ القِسْمِ الأَوَّلِ، الذينَ أَرَادُوا العَاجِلَةَ دُونَ الآجِلَةِ، وَأَقْبَلُوا عَلَى الفَانِيَةِ دُونَ البَاقِيَةِ، إلى خُسْرَانٍ، وَذَلِكَ لِقَوْلِهِ تعالى: ﴿ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلَاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا﴾.

وَأَمَّا القِسْمُ الثَّانِي، الذينَ أَرَادُوا اللهَ تعالى وَالدَّارَ الآخِرَةَ، وَسَعَوْا لَها سَعْيَهَا، فَهَؤُلَاءِ هُمُ المُفْلِحُونَ بِإِذْنِ اللهِ تعالى، وَسَوْفَ يَكُونُ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا، هَذَا القِسْمُ أَتْعَبُوا أَنْفُسَهُمْ في حَيَاتِهِمُ الدُّنْيَا، وَحَمَلُوهَا عَلَى الالْتِزَامِ بِكِتَابِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ في سَاعَةِ الجِدِّ وَالهَزْلِ، في سَاعَةِ العَطَاءِ وَالمَنْعِ، في الرَّفْعِ وَالخَفْضِ، هَؤُلَاءِ أَتْعَبُوا أَنْفُسَهُم بِكَثْرَةِ الطَّاعَاتِ وَالقُرُبَاتِ، هَؤُلَاءِ هُمُ الفَائِزُونَ في الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ، قَالَ تعالى: ﴿مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾.

يَا عِبَادَ اللهِ: مَنْ كَانَ يُرِيدُ الآخِرَةَ، عَلَيْهِ أَنْ يُحَافِظَ عَلَى تِلْكَ الطَّاعَاتِ مِنَ الضَّيَاعِ حَتَّى لَا يَكُونَ مُفْلِسًا يَوْمَ القِيَامَةِ.

كُفَّ يَدَكَ وَلِسَانَكَ:

يَا عِبَادَ اللهِ: أَلَا تُرِيدُونَ الآخِرَةَ وَنَعِيمَهَا؟ أَلَا تُرِيدُونَ جَنَّةً فِيهَا مَا لَا عَيْنٌ رَأَتْ، وَلَا أُذُنٌ سَمِعَتْ، وَلَا خَطَرَ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ؟ أَلَا تُرِيدُونَ نَعِيمًا مُتَوَّجًا بِقَولِهِ تعالى: ﴿وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ﴾؟ يَا مَنْ أَرَادَ هَذَا النَّعِيمَ:

كُفَّ عَلَيْكَ لِسَانَكَ وَيَدَكَ في سَاعَةِ الغَضَبِ.

كُفَّ لِسَانَكَ وَيَدَكَ عَمَّنْ يَقُولُ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ.

كُفَّ لِسَانَكَ وَيَدَكَ عَنْ أَعْرَاضِ المُسْلِمِينَ، وَلَا تُفَرِّقْ بَيْنَ الأَحِبَّةِ.

كُفَّ يَدَكَ عَنْ أَمْوَالِ العِبَادِ بِغَيْرِ حَقٍّ.

كُفَّ عَنْ تَرْوِيعِ النَّاسِ مِنْ خِلَالِ نَشْرِ الشَّائِعَاتِ الكَاذِبَةِ.

خَاتِمَةٌ ـ نَسْأَلُ اللهَ تعالى حُسْنَ الخَاتِمَةَ ـ:

يَا عِبَادَ اللهِ: يَا مَنْ يَنتَظِرونَ الفَرَجَ مِنَ اللهِ تعالى، حَافِظُوا عَلَى طَاعَاتِكُمْ وَحَسَنَاتِكُمْ بِضَبْطِ اللِّسَانِ وَاليَدِ، فإيَّاكُمْ وَالشَّتْمَ، إِيَّاكُمْ وَالقَذْفَ، إيَّاكُمْ وَأَكْلَ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالبَاطِلِ، سَوَاءٌ كَانَتْ أَمْوَالًا عَامَّةً أَو خَاصَّةً، إِيَّاكُمْ وَسُوءَ الأَخْلَاقِ وَخَاصَّةً في شَهْرِ رَمَضَانَ، وَأَنْتُمْ قَدْ حُجِرَ عَلَيْكُمْ في بُيُوتِكُمْ.

يَا عِبَادَ اللهِ: نَحنُ في ظَاهِرِ الأَمْرِ مِمَّنْ أَرَادَ اللهَ تعالى والدَّارَ الآخِرَةَ، فَلْنُحَافِظْ عَلَى طَاعَاتِنَا وَعِبَادَاتِنَا، حَتَّى إِذَا مَا جَاءَتْ سَكَرَاتُ المَوْتِ قُلْنَا بِلِسَانِ الحَالِ وَالمَقَالِ: وَاطَرَباهُ، غَدًا نَلْقَى الأَحِبَّةَ، سَيِّدَنَا مُحَمَّدًا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، وَأَرْجُو اللهَ تعالى أَنْ لَا نَكُونَ مِمَّنْ يَقُولُ: ﴿رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ﴾.

أَسْأَلُ اللهَ تعالى أَنْ لَا يَجْعَلَ لِأَحَدٍ عَلَيْنَا تَبِعَةً يَوْمَ القِيَامَةِ، وَأَنْ لَا يُحَكِّمَ أَحَدًا بِحَسَنَاتِنَا، وَأَنْ لَا نَحْمِلَ مِنْ أَوْزَارِ العِبَادِ شَيْئًا، وَأَنْ يَكْشِفَ هَذَا البَلَاءَ عَنِ البَشَرِيَّةِ جَمْعَاءَ، وَأَنْ يُعِيدَنَا إلى بُيُوتِهِ وَقَدْ تَطَهَّرْنَا ظَاهِرًا وَبَاطِنًا، وَأَنْ يَجْعَلَ هَمَّنَا الآخِرَةَ. آمين.

أقول هذا القول، وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

**    **    **

تاريخ الخطبة:

الجمعة: 8/ رمضان /1441هـ، الموافق: 1/ أيار / 2020م

 2020-05-03
 6318
الملف المرفق
 
 
 

مواضيع اخرى ضمن  خطب الجمعة

17-05-2024 174 مشاهدة
914ـ خطبة الجمعة: مهمة المسلم الإصلاح (1)

إِنَّ مُهِمَّةَ العَبْدِ المُؤْمِنِ العِبَادَةُ، وَمِنْ هَذِهِ العِبَادَةِ الإِصْلَاحُ، قَالَ تعالى حِكَايَةً عَلَى لِسَانِ سَيِّدِنَا شُعَيْبٍ عَلَيْه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: ﴿إِنْ أُرِيدُ إِلا الإِصْلاَحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي ... المزيد

 17-05-2024
 
 174
10-05-2024 342 مشاهدة
913ـ خطبة الجمعة: آثار الحج على النفس (4)

فَرِيضَةُ الحَجِّ ثَابِتَةٌ بِنَصِّ الكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَبِالإِجْمَاعِ، وَيَقُولُ اللهُ تعالى: ﴿وَللهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ﴾. ... المزيد

 10-05-2024
 
 342
02-05-2024 581 مشاهدة
912ـ خطبة الجمعة: آثار الحج على النفس (3)

الحَجُّ شَعِيرَةٌ عَظِيمَةٌ مِنْ شَعَائِرِ دِينِنَا العَظِيمِ، فَرَضَهُ اللهُ تعالى عَلَى عِبَادِهِ المُؤْمِنِينَ مَرَّةً في العُمُرِ، لِقَوْلِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ ـ عِنْدَمَا سُئِلَ عَنِ الإِسْلَامِ ـ: ... المزيد

 02-05-2024
 
 581
26-04-2024 538 مشاهدة
911ـ خطبة الجمعة: آثار الحج على النفس (2)

لَقَدْ أَكْمَلَ اللهُ تعالى وَأَتَمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْنَا بِهَذَا الدِّينِ الحَنِيفِ، وَعَظُمَتْ نِعْمَةُ اللهِ تعالى عَلَيْنَا إِذْ فَرَضَ عَلَيْنَا الحَجَّ في العُمُرِ مَرَّةً وَاحِدَةً، للمُسْتَطِيعِ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ، وَمِنَ ... المزيد

 26-04-2024
 
 538
19-04-2024 835 مشاهدة
910ـ خطبة الجمعة: آثار الحج على النفس (1)

أَتَوَجَّهُ إلى السَّادَةِ حُجَّاجِ بَيْتِ اللهِ الحَرَامِ، لِأَقُولَ لَهُمْ: هَنيئًا لَكُمْ يَا مَنْ لَبَّيْتُمْ أَمْرَ اللهِ تعالى القَائِلِ: ﴿وَللهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللهَ ... المزيد

 19-04-2024
 
 835
12-04-2024 1557 مشاهدة
909ـ خطبة الجمعة: تعزية لمن أصيب بدينه

إِنَّ مِنْ أَعْظَمِ المَصَائِبِ مُصِيبَةَ الدِّينِ، لِأَنَّهُ مَهْمَا عَظُمَتْ مَصَائِبُ الدُّنْيَا فَسَوْفَ تَنْقَضِي، وَرُبَّمَا يُجْبَرُ صَاحِبُهَا وَيُعَوِّضُ مَا فَاتَهُ، أَمَّا مُصِيبَةُ الدِّينِ فَإِنَّهَا تَذْهَبُ بِسَعَادَةِ العَبْدِ ... المزيد

 12-04-2024
 
 1557

البحث في الفتاوى

الفتاوى 5613
المقالات 3165
المكتبة الصوتية 4802
الكتب والمؤلفات 20
الزوار 414950322
جميع الحقوق محفوظة لموقع الشيخ أحمد النعسان © 2024 
برمجة وتطوير :