749ـ خطبة الجمعة: يا أيها المظلوم

749ـ خطبة الجمعة: يا أيها المظلوم

749ـ خطبة الجمعة: يا أيها المظلوم

مقدمة الخطبة:

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

أَمَّا بَعْدُ، فَيَا عِبَادَ اللهِ: ذَكَرْنَا في الخُطْبَتَيْنِ المَاضِيَتَيْنِ أَنَّ اللهَ تعالى حَرَّمَ الظُّلْمَ عَلَى نَفْسِهِ، وَجَعَلَهُ بَيْنَنَا مُحَرَّمًا، وَأَكَّدَ عَلَى تَحْرِيمِهِ في الأَشْهُرِ الحُرُمِ، فَقَالَ تعالى: ﴿فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ﴾.

فَمَنْ ظَلَمَ في الحَقِيقَةِ مَا ظَلَمَ إِلَّا نَفْسَهُ ﴿إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا﴾.

ثُمَّ بَيَّنَ لَنَا تَبَارَكَ وتعالى: أَنَّهُ لَبِالمِرْصَادِ لِكُلِّ ظَالِمٍ، قَالَ تعالى: ﴿وَلَا تَحْسَبَنَّ اللهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ﴾. وَقَالَ: ﴿إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ﴾.

أَيُّهَا المَظْلُومُ:

وَأَمَّا اليَوْمَ فَإِنِّي أَتَوَجَّهُ إلى كُلِّ مَظْلُومٍ لِأَقُولَ لَهُ:

يَا أَيُّهَا المَظْلُومُ، تَذَكَّرْ وَحَاسِبْ نَفْسَكَ مِنْ أَيْنَ أُتِيتَ؟ لِأَنَّكَ لَا تَلْقَى كَدَرًا إِلَّا مِنْ طَرِيقِ جِنَايَةٍ ﴿وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ﴾.

يَا أَيُّهَا المَظْلُومُ، لَا تَيْأَسْ وَإِنْ تَوَالَتْ عَلَيْكَ الخُطُوبُ، وَسُدَّتْ في وَجْهِكَ الدُّرُوبُ، فَإِنَّ عَلَّامَ الغُيُوبِ، وَغَفَّارَ الذُّنُوبِ، وَسَتَّارَ العُيُوبِ، وَمُقَلِّبَ القُلُوبِ، سَيُفَرِّجُ عَنْكَ الكُرُوبَ، وَيُحَقِّقُ لَكَ المَطْلُوبَ، فَأَكْثِرْ مِنْ دُعَاءِ ذِي النُّونِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: ﴿لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ * فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ﴾.

يَا أَيُّهَا المَظْلُومُ، هَوِّنْ عَلَيْكَ، فَإِنَّ أَمْرَ الدُّنْيَا مَعْلُومٌ، فَهِيَ للظَّالِمِ لَا تَدُومُ، وَعِنْدَ اللهِ تَجْتَمِعُ الخُصُومُ.

يَا أَيُّهَا المَظْلُومُ، دُعَاؤُكَ لَنْ يَضِيعَ عِنْدَ مَوْلَانَا، وَتَذَكَّرْ فَرْحَةَ سَيِّدِنَا سَعِيدِ بْنِ زَيْدٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، عِنْدَمَا ادَّعَتِ امْرَأَةٌ أَنَّهُ غَصَبَهَا أَرْضَهَا، روى الإمام مسلم عَنْ سَعِيدِ بْنِ زَيْدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ نُفَيْلٍ، أَنَّ أَرْوَى خَاصَمَتْهُ فِي بَعْضِ دَارِهِ، فَقَالَ: دَعُوهَا وَإِيَّاهَا، فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «مَنْ أَخَذَ شِبْرًا مِنَ الْأَرْضِ بِغَيْرِ حَقِّهِ، طُوِّقَهُ فِي سَبْعِ أَرَضِينَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» اللَّهُمَّ، إِنْ كَانَتْ كَاذِبَةً فَأَعْمِ بَصَرَهَا، وَاجْعَلْ قَبْرَهَا فِي دَارِهَا.

قَالَ: فَرَأَيْتُهَا عَمْيَاءَ تَلْتَمِسُ الْجُدُرَ تَقُولُ: أَصَابَتْنِي دَعْوَةُ سَعِيدِ بْنِ زَيْدٍ؛ فَبَيْنَمَا هِيَ تَمْشِي فِي الدَّارِ مَرَّتْ عَلَى بِئْرٍ فِي الدَّارِ، فَوَقَعَتْ فِيهَا، فَكَانَتْ قَبْرَهَا.

رَبُّنَا عَزَّ وَجَلَّ أَقْسَمَ أَنَّهُ نَاصِرُكَ وَلَو مَضَى زَمَنٌ طَوِيلٌ، لِأَنَّهُ تَبَارَكَ وتعالى حَلِيمٌ لَا يَعْجَلُ، لَعَلَّ الظَّالِمَ يَرْجِعُ لَعَلَّهُ يَتُوبُ، لَعَلَّهُ يُرْضِي الخُصُومَ.

يَا أَيُّهَا المَظْلُومُ، أَبْشِرْ بِالذي يَسُرُّكَ، فَإِنَّهُ لَنْ يَزَالَ مَعَكَ مِنَ اللهِ ظَهِيرٌ، وَلَكَ أُسْوَةٌ بِسَيِّدِنَا يُوسُفَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، حَيْثُ أَلْقَوْهُ في غَيَابَةِ الجُبِّ، وَبِيعَ بِثَمَنٍ بَخْسٍ، وَاتُّهِمَ في عِرْضِهِ، وَأُدْخِلَ السِّجْنَ؛ بَعْدَ كُلِّ هَذِهِ الابْتِلَاءَاتِ مَكَّنَهُ اللهُ تعالى في الأَرْضِ ﴿وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاءُ نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَنْ نَشَاءُ وَلَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ * وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ﴾.

يَا أَيُّهَا المَظْلُومُ، تَذَكَرْ أَنَّ اللهَ نَاصِرُكَ لَا مَحَالَةَ، لِأَنَّكَ في مُلْكِ مَنْ حَرَّمَ الظُّلْمَ عَلَى نَفْسِهِ، وَحَرَّمَهُ بَيْنَ عِبَادِهِ، وَسَيَنْتَهِي بِكَ المَصِيرُ إلى يَوْمٍ يَقْتَصُّ فِيهِ اللهُ لِلشَّاةِ الْجَلْحَاءِ، مِنَ الشَّاةِ الْقَرْنَاءِ؛ فَكَيْفَ بِكَ أَنْتَ؟

لَنْ يَفُوتَ شَيْءٌ مِنْ حَقِّكَ في الآخِرَةِ، وَإِنْ فَاتَ في الدُّنْيَا.

يَا أَيُّهَا المَظْلُومُ، اسْمَعْ قَوْلَ اللهِ تعالى: ﴿إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ﴾. وَكُنْ مُطْمَئِنًّا، فَلَا تَخَفْ وَلَا تَجْزَعْ.

يَا أَيُّهَا المَظْلُومُ، لَا تَكُنْ مَظْلُومًا مَحْرُومًا، تَظْلِمُ نَفْسَكَ مَعَ ظُلْمِ الآخَرِينَ لَكَ، بِتَفَوُّهِكَ بِبَعْضِ الكَلِمَاتِ التي لَا تُرْضِي اللهَ عَزَّ وَجَلَّ.

تَذَكَرْ ﴿وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا﴾. فَإِنْ زِدْتَ أَصْبَحْتَ ظَالِمًا، فَاحْذَرْ أَنْ تَتَعَدَّى حُدُودَكَ.

خَاتِمَةٌ ـ نَسْأَلُ اللهَ تعالى حُسْنَ الخَاتِمَةَ ـ:

يَا عِبَادَ اللهِ: أَقُولُ لِنَفْسِي وَلِكُلِّ مَنْ وَقَعَ عَلَيْهِ الظُّلْمُ: لِنُرَاجِعِ الحِسَابَاتِ فِيمَا بَيْنَنَا وَبَيْنَ اللهِ تعالى، لِأَنَّهُ مَا مِنْ مُصِيبَةٍ تَقَعُ إِلَّا بِشُؤْمِ ذَنْبٍ أَو مَعْصِيَةٍ، فَلْنَسْتَغْفِرِ اللهَ، وَلْنُعِدِ الحُقُوقَ إلى أَصْحَابِهَا، وَبَعْدَ ذَلِكَ أَبْشِرُوا بِوَعْدِ اللهِ الذي لَا يُخْلَفُ ﴿فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا * إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا﴾.

اللَّهُمَّ لَا تَجْعَلْنَا مِنَ الظَّالِمِينَ، وَلَا تَجْعَلْ للظَّالِمِينَ عَلَيْنَا سَبِيلًا. آمين.

أقول هذا القول، وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

**    **    **

تاريخ الخطبة:

الجمعة: 14/ رجب /1442هـ، الموافق: 26/شباط / 2021م

 2021-02-26
 4516
الملف المرفق
 
 
 

مواضيع اخرى ضمن  خطب الجمعة

17-05-2024 165 مشاهدة
914ـ خطبة الجمعة: مهمة المسلم الإصلاح (1)

إِنَّ مُهِمَّةَ العَبْدِ المُؤْمِنِ العِبَادَةُ، وَمِنْ هَذِهِ العِبَادَةِ الإِصْلَاحُ، قَالَ تعالى حِكَايَةً عَلَى لِسَانِ سَيِّدِنَا شُعَيْبٍ عَلَيْه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: ﴿إِنْ أُرِيدُ إِلا الإِصْلاَحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي ... المزيد

 17-05-2024
 
 165
10-05-2024 331 مشاهدة
913ـ خطبة الجمعة: آثار الحج على النفس (4)

فَرِيضَةُ الحَجِّ ثَابِتَةٌ بِنَصِّ الكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَبِالإِجْمَاعِ، وَيَقُولُ اللهُ تعالى: ﴿وَللهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ﴾. ... المزيد

 10-05-2024
 
 331
02-05-2024 577 مشاهدة
912ـ خطبة الجمعة: آثار الحج على النفس (3)

الحَجُّ شَعِيرَةٌ عَظِيمَةٌ مِنْ شَعَائِرِ دِينِنَا العَظِيمِ، فَرَضَهُ اللهُ تعالى عَلَى عِبَادِهِ المُؤْمِنِينَ مَرَّةً في العُمُرِ، لِقَوْلِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ ـ عِنْدَمَا سُئِلَ عَنِ الإِسْلَامِ ـ: ... المزيد

 02-05-2024
 
 577
26-04-2024 537 مشاهدة
911ـ خطبة الجمعة: آثار الحج على النفس (2)

لَقَدْ أَكْمَلَ اللهُ تعالى وَأَتَمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْنَا بِهَذَا الدِّينِ الحَنِيفِ، وَعَظُمَتْ نِعْمَةُ اللهِ تعالى عَلَيْنَا إِذْ فَرَضَ عَلَيْنَا الحَجَّ في العُمُرِ مَرَّةً وَاحِدَةً، للمُسْتَطِيعِ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ، وَمِنَ ... المزيد

 26-04-2024
 
 537
19-04-2024 833 مشاهدة
910ـ خطبة الجمعة: آثار الحج على النفس (1)

أَتَوَجَّهُ إلى السَّادَةِ حُجَّاجِ بَيْتِ اللهِ الحَرَامِ، لِأَقُولَ لَهُمْ: هَنيئًا لَكُمْ يَا مَنْ لَبَّيْتُمْ أَمْرَ اللهِ تعالى القَائِلِ: ﴿وَللهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللهَ ... المزيد

 19-04-2024
 
 833
12-04-2024 1553 مشاهدة
909ـ خطبة الجمعة: تعزية لمن أصيب بدينه

إِنَّ مِنْ أَعْظَمِ المَصَائِبِ مُصِيبَةَ الدِّينِ، لِأَنَّهُ مَهْمَا عَظُمَتْ مَصَائِبُ الدُّنْيَا فَسَوْفَ تَنْقَضِي، وَرُبَّمَا يُجْبَرُ صَاحِبُهَا وَيُعَوِّضُ مَا فَاتَهُ، أَمَّا مُصِيبَةُ الدِّينِ فَإِنَّهَا تَذْهَبُ بِسَعَادَةِ العَبْدِ ... المزيد

 12-04-2024
 
 1553

البحث في الفتاوى

الفتاوى 5613
المقالات 3165
المكتبة الصوتية 4802
الكتب والمؤلفات 20
الزوار 414946899
جميع الحقوق محفوظة لموقع الشيخ أحمد النعسان © 2024 
برمجة وتطوير :