47ـ التسامح والعفو عند المقدرة

47ـ التسامح والعفو عند المقدرة

47ـ التسامح والعفو عند المقدرة

مقدمة الكلمة:

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

أما بعد، فَيَا أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: مَا أَجْمَلَ العَفْوَ وَالصَّفْحَ، مَا أَجْمَلَ التَّعَامُلَ مَعَ الآخَرِينَ بِالفَضْلِ، مَا أَجْمَلَ دَفْعَ السَّيِّئَةِ بِالحَسَنَةِ، مَا أَجْمَلَ سَلَامَةَ الصَّدْرِ وَرَحَابَتَهُ، مَا أَجْمَلَ الأَخْلَاقَ، مَا أَجْمَلَ الْتِزَامَ قَوْلِ اللهِ تعالى: ﴿خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ﴾.

بِالعَفْوِ وَالصَّفْحِ وَبِالفَضْلِ وَبِسَلَامَةِ الصَّدْرِ وَحُسْنِ الأَخْلَاقِ تَكُونُ الدَّعْوَةُ إلى اللهِ تعالى، وَبِهَا يَكُونُ صَلَاحُ المُجْتَمَعِ، وَبِهَا يُؤَدَّبُ المُسِيءُ، وَبِهَا يَنْقَلِبُ العَدُوُّ صَدِيقًا صَحِيحًا، وَبِهَا يَكُونُ صَاحِبُهَا مَضْرِبَ مَثَلٍ، وَيَكُونُ لَهُ لِسَانُ صِدْقٍ في الآخِرِينَ.

كُلُّ هَذَا نَتَعَلَّمُهُ مِنْ قِصَّةِ سَيِّدِنَا يُوسُفَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عِنْدَمَا وَقَفَ أَمَامَهُ إِخْوَتُهُ، وَهُوَ يَقُولُ لَهُمْ ﴿هَلْ عَلِمْتُمْ مَا فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنْتُمْ جَاهِلُونَ﴾. لِنَنْظُرْ إلى مَوْقِفِ المُسِيءِ إِذَا انْجَلَتِ الحَقِيقَةُ، كَيْفَ يَكُونُ حَالهُ، وَكَيْفَ يَكُونُ ضَمِيرُهُ ﴿قَالُوا أَإِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ قَالَ أَنَا يُوسُفُ وَهَذَا أَخِي قَدْ مَنَّ اللهُ عَلَيْنَا إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ * قَالُوا تَاللهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللهُ عَلَيْنَا وَإِنْ كُنَّا لَخَاطِئِينَ﴾.

وَهُنَا قَالَ سَيِّدُنَا يُوسُفُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ كَلِمَةَ العَفْوِ، مَعَ كَامِلِ الوُدِّ وَالشَّفَقَةِ وَالرَّحْمَةِ، لِأَنَّهُ عَلَى يَقِينٍ بِأَنَّهُ لَا يَسْتَطِيعُ أَحَدٌ أَنْ يُغَيِّرَ قَدَرَ اللهِ تعالى، قَالَ لَهُمْ: ﴿لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ﴾.

نَعَمْ، هَكَذَا شَأْنُ الكِرَامِ، هَكَذَا شَأْنُ عِبَادِ الرَّحْمَنِ، هَكَذَا شَأْنُ مَنِ الْتَزَمَ بِقَوْلِهِ تعالى: ﴿يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ﴾.

وَهَكَذَا شَأْنُ مَنِ الْتَزَمَ قَوْلَ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «يَا بُنَيَّ، إِنْ قَدَرْتَ أَنْ تُصْبِحَ وَتُمْسِيَ لَيْسَ فِي قَلْبِكَ غِشٌّ لِأَحَدٍ فَافْعَلْ» ثُمَّ قَالَ لِي: «يَا بُنَيَّ وَذَلِكَ مِنْ سُنَّتِي، وَمَنْ أَحْيَا سُنَّتِي فَقَدْ أَحَبَّنِي، وَمَنْ أَحَبَّنِي كَانَ مَعِي فِي الجَنَّةِ» رواه الترمذي عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.

التَّسَامُحُ وَالعَفْوُ عِنْدَ المَقْدِرَةِ:

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: لَنَا في هَذَا المَوْقِفِ دَرْسٌ في التَّسَامُحِ وَالعَفْوِ عِنْدَ المَقْدِرَةِ، وَدَرْسٌ في العَفْوِ عَمَّنْ أَسَاءَ إِلَيْنَا، وَدَرْسٌ عَمَلِيٌّ في مُقَابَلَةِ الإِسَاءَةِ بِالإِحْسَانِ، سَيِّدُنَا يُوسُفُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عِنْدَمَا آلَتِ الأُمُورُ إِلَيْهِ، وَكَانَ بِاسْتِطَاعَتِهِ أَنْ يَنْتَقِمَ مِنْ إِخْوَتِهِ الذينَ كَادُوا لَهُ في أَوَّلِ الأَمْرِ، وَلَكِنَّ سُمُوَّ نَفْسِهِ، وَكَرَمَ عُنْصُرِهِ، وَتَرَفُّعَهُ عَنِ الانْتِقَامِ، وَاحْتِسَابَ الأَجْرِ عِنْدَ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ، جَعَلَهُ يَأْبَى أَنْ يَنْزَلِقَ إلى هَذَا المُنْزَلَقِ، بَلْ أَجَابَهُمُ الجَوَابَ المُفْعَمَ بِالمَحَبَّةِ وَالعَطْفِ الأَخَوِيِّ وَالمُسَامَحَةِ قَائِلًا: ﴿لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ﴾.

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: هَلْ نَسْتَفِيدُ مِنْ هَذَا المَوْقِفِ، وَنَخْرُجُ بِرُوحِ التَّسَامُحِ وَالمَغْفِرَةِ، وَالعَفْوِ عَمَّنْ أَسَاءَ إِلَيْنَا؟

إِذَا وَجَدَ أَحَدُنَا صُعُوبَةً في هَذَا المَوْقِفِ فَلْيَسْتَحْضِرْ وُقُوفَهُ بَيْنَ يَدَيِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَهُوَ العَبْدُ المُذْنِبُ الخَطَّاءُ، العَبْدُ المُحْتَاجُ إلى عَفْوِ اللهِ تعالى، المُحْتَاجُ إلى أَنْ يَتَجَاوَزَ اللهُ تعالى عَنْ سَيِّئَاتِهِ وَتَقْصِيرِهِ.

مَنْ مِنَّا لَا يُخْطِئُ، وَلَمْ يُخْطِئْ؟ مَنْ مِنَّا لَا يَرْجُو أَنْ يُسَامِحَهُ الآخَرُونَ إِذَا أَسَاءَ إِلَيْهِمْ؟

مَنْ مِنَّا لَا يُرِيدُ أَنْ يَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللهِ تعالى القَائِلِ: ﴿وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ﴾؟

مَنْ مِنَّا لَا يُرِيدُ أَنْ يَرِدَ عَلَى حَوْضِ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ القِيَامَةِ عِنْدَمَا يَخُوضُ النَّاسُ بِعَرَقِهِمْ، كُلٌّ عَلَى حَسَبِ حَالِهِ؟

مَنْ مِنَّا يُرِيدُ أَنْ يُحْرَمَ الوُرُودَ عَلَى حَوْضِ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ القَائِلِ: «وَمَنْ أَتَاهُ أَخُوهُ مُتَنَصِّلًا فَلْيَقْبَلْ ذَلِكَ مِنْهُ مُحِقًّا كَانَ أَوْ مُبْطِلًا فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ لَمْ يَرِدْ عَلَيَّ الْحَوْضَ»؟ رواه الحاكم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.

خَاتِمَةٌ ـ نَسْأَلُ اللهَ تعالى حُسْنَ الخَاتِمَةِ ـ:

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: كَمْ نَحْنُ بِحَاجَةٍ إلى عَفْوِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ؟ كَمْ نَحْنُ بِحَاجَةٍ إلى أَنْ يُسَامِحَنَا رَبُّنَا عَزَّ وَجَلَّ؟ كَمْ نَحْنُ بِحَاجَةٍ أَنْ لَا يَفْضَحَنَا رَبُّنَا عَزَّ وَجَلَّ يَوْمَ القِيَامَةِ عَلَى رُؤُوسِ الأَشْهَادِ؟

حَرِيٌّ بِنَا أَنْ نَتَجَاوَزَ عَنْ زَلَّاتِ الآخَرِينَ، لِنَلْقَى اللهَ عَزَّ وَجَلَّ يَوْمَ القِيَامَةِ بِقُلُوبٍ سَلِيمَةٍ ﴿يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ﴾.

حَرِيٌّ بِنَا أَنْ نَتَجَاوَزَ عَنْ زَلَّاتِ الآخَرِينَ، لَعَلَّ اللهَ تعالى يَتَجَاوَزُ عَنْ زَلَّاتِنَا ﴿وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾.

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: أَلَيْسَتْ هَذِهِ هِيَ أَخْلَاقَ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ؟

فَهَلَّا تَخَلَّقْنَا بِأَخْلَاقِهِ، وَأَخَذْنَا بِهَدْيِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ؟

بِالأَخْلَاقِ نَدْعُو المُجْتَمَعَ إلى الإِسْلَامِ وَمُتَابَعَةِ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ.

اللَّهُمَّ وَفِّقْنَا لِذَلِكَ. آمين.

تاريخ الكلمة

**    **    **

الاثنين: 25/ صفر /1442هـ، الموافق: 12/ تشرين الأول / 2020م

الملف المرفق
 
 
 

مواضيع اخرى ضمن  ﴿لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ ﴾

15-01-2024 396 مشاهدة
85ـ وقفات مع سيدنا عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه

الحَدِيثُ عَنِ الخَلِيفَةِ التَّابِعِيِّ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ العَزِيزِ ذُو شُجُونٍ، فَأَنْتَ لَا تَكَادُ تُلِمُّ بِصُورَةٍ مِنْ صُوَرِ حَيَاتِهِ الفَذَّةِ حَتَّى تُسْلِمَكَ إِلى أُخْرَى أَكْثرَ بَهَاءً، وَأَغْنَى رَوَاءً، وَأَبْعَدَ تَأْثِيرًا. ... المزيد

 15-01-2024
 
 396
31-07-2023 418 مشاهدة
84ـ عروة بن الزبير رضي الله عنه

مَا كَادَتْ شَمْسُ الأَصِيلِ تُلَمْلِمُ خُيُوطَهَا الذَّهَبِيَّةَ عَنْ بَيْتِ اللهِ الحَرَامِ، وَتَأْذَنُ للنَّسَمَاتِ النَّدِيَّةِ بِأَنْ تَتَرَدَّدَ في رِحَابِهِ الطَّاهِرَةِ، حَتَّى شَرَعَ الطَّائِفُونَ بِالبَيْتِ مِنْ بَقيةِ صَحَابَةِ ... المزيد

 31-07-2023
 
 418
08-05-2023 631 مشاهدة
83ـ شريح القاضي

ابْتَاعَ أَمِيرُ المُؤْمِنِينَ عُمَرُ بْنُ الخَطَّابِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ فَرَسًا مِنْ رَجُلٍ مِنَ الأَعْرَابِ وَنَقَدَهُ ثَمَنَهُ، ثُمَّ امْتَطَى صَهْوَتَهُ وَمَضَى بِهِ. لَكِنَّهُ مَا كَادَ يَبْتَعِدُ بِالفَرَسِ طَوِيلًا حَتَّى ظَهَرَ فِيهِ ... المزيد

 08-05-2023
 
 631
19-04-2023 482 مشاهدة
82ـ امرؤ سريرته كعلانيته (الحسن البصري)

حَدَّثَ خَالِدُ بْنُ صَفْوَانَ قَالَ: لَقِيتُ مَسْلَمَةَ بْنَ عَبْدِ المَلِكِ في الحِيْرَةِ فَقَالَ لِي: أَخْبِرْنِي عَنْ حَسَنِ البَصْرَةِ، فَإِنَّي أَظُنُّ أَنَّكَ تَعْرِفُ مِنْ أَمْرِهِ مَا لَا يَعْرِفُ سِوَاكَ. فَقُلْتُ: أَصْلَحَ اللهُ الأَمِيرَ، ... المزيد

 19-04-2023
 
 482
14-04-2023 353 مشاهدة
81ـ أتحلف من أجل درهمين

وُلِدَ مُحَمَّدُ بْنُ سِيرِينَ لِسَنَتَيْنِ بَقِيَتَا مِنْ خِلَافَةِ أَمِيرِ المُؤْمِنِينَ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ. وَرُبِّيَ في بَيْتٍ يَتَضَوَّعُ الوَرَعَ وَالتُّقَى (يَنْتَشِرُ انْتِشَارَ المِسْكِ) مِنْ كُلِّ رُكْنٍ مِنْ ... المزيد

 14-04-2023
 
 353
11-04-2023 432 مشاهدة
80ـ حتى لا يتثاقل مظلوم عن رفع ظلامته

يَرْوِي قَاضِي المُوصِلِ يَحْيَى بْنُ يَحْيَى الغَسَّانِيُّ فَيَقُولُ: بَيْنَمَا عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ يَطُوفُ ذَاتَ يَوْمٍ فِي أَسْوَاقِ حِمْصَ لِيَتَفَقَّدَ البَاعَةَ وَيَتَعَرَّفَ عَلَى الأَسْعَارِ، إِذْ قَامَ إِلَيْهِ رَجُلٌ عَلَيْهِ ... المزيد

 11-04-2023
 
 432

البحث في الفتاوى

الفتاوى 5613
المقالات 3165
المكتبة الصوتية 4802
الكتب والمؤلفات 20
الزوار 414944829
جميع الحقوق محفوظة لموقع الشيخ أحمد النعسان © 2024 
برمجة وتطوير :