5ـ الإعجاز التشريعي

5ـ الإعجاز التشريعي

5ـ الإعجاز التشريعي

 

مِنْ وُجُوهِ الإِعْجَازِ في القُرْآنِ العظِيمِ الإِعْجَازُ التَّشْرِيعِيُّ، حَيْثُ جَاءَ بِهِدَايَاتٍ كَامِلَةٍ تَامَّةٍ، تَفِي بِحَاجَاتِ جَمِيعِ البَشَرِ في كُلِّ زَمَانٍ وَمَكَانٍ، لِأَنَّ الذي أَنْزَلَهُ هُوَ العَلِيمُ بِكُلِّ شَيْءٍ، عَلِيمٌ بِمَا كَانَ، وَبِمَا يَكُونُ، وَبِمَا سَيَكُونُ، وَهُوَ الخَبِيرُ بِمَا يُصْلِحُ وَيُفْسِدُ البَشَرِيَّةَ جَمْعَاءَ إلى قِيَامِ السَّاعَةِ، فَشَرَعَ لَهَا مَا يَنْفَعُهَا، وَحَذَّرَهَا وَمَنَعَهَا مِمَّا يَضُرُّهَا.

فَإِذَا شَرَعَ رَبُّنَا عَزَّ وَجَلَّ أَمْرًا جَاءَ هَذَا الشَّرْعُ في أَعْلَى دَرَجَاتِ الحِكْمَةِ وَالخِيرَةِ، قَالَ تعالى: ﴿أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ﴾؟ وَقَالَ تعالى: ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا﴾. فَلَيْسَ بَعْدَ إِكْمَالِهِ إِكْمَالٌ، وَبَعْدَ إِتْمَامِهِ إِتْمَامٌ، وَمُسْتَحِيلٌ وَأَلْفُ مُسْتَحِيلٍ أَنْ يُسْتَدْرَكَ عَلَى مَا شَرَعَ اللهُ تعالى للبَشَرِيَّةِ مِنْ خِلَالِ هَذَا القُرْآنِ العَظِيمِ.

وَهَذَا الأَمْرُ وَاضِحٌ عِنْدَ مَنْ تَأَمَّلَ في أَحْوَالِ الأَنْظِمَةِ وَالقَوَانِينِ البَشَرِيَّةِ، التي أَصْبَحَ عَجْزُهَا وَاضِحًا أَمَامَ الأَعْيُنِ عَنْ مُعَالَجَةِ المُشْكِلَاتِ للبَشَرِيَّةِ، وُمُسَايَرَةِ الأَوْضَاعِ وَالأَزْمِنَةِ وَالأَحْوَالِ، مِمَّا يَضْطَرُّ أَصْحَابَهَا إلى الاسْتِمْرَارِ في التَّعْدِيلِ وَالزِّيَادَةِ أَو النُّقْصَانِ، فَيُلْغُونَ غَدًا مَا وَضَعُوهُ اليَوْمَ، وَيُلْغُونَ بَعْدَ أَيَّامٍ مَا وَضَعُوهُ سَابِقًا، لِأَنَّ الإِنْسَانَ مَحَلُّ النَّقْصِ وَالخَطَأِ وَالجَهْلِ لِأَعْمَاقِ النَّفْسِ البَشَرِيَّةِ، وَصَدَقَ فِيهِ قَوْلُ اللهِ تعالى: ﴿وَاللهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾. وَصَدَقَ فِيهِ قَوْلُهُ تعالى: ﴿فَاذْكُرُوا اللهَ كَمَا عَلَّمَكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ﴾. وَبَيَّنَ في الخِتَامِ: ﴿وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا﴾.

وَهَذَا دَلِيلٌ حِسِّيٌّ شَاهِدٌ عَلَى عَجْزِ جَمِيعِ البَشَرِ عَنِ الإِتْيَانِ بِأَنْظِمَةٍ تُصْلِحُ الخَلْقَ، وَتُقَوِّمُ أَخْلَاقَهُمْ، وَهُوَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ القُرْآنَ العَظِيمَ كَلَامُ اللهِ تعالى، وَهُوَ الكَفِيلُ بِرِعَايَةِ مَصَالِحِ العِبَادِ إِنِ الْتَزَمُوهُ، وَهُوَ سِرُّ هِدَايَتِهِمْ إلى كُلِّ مَا يُصْلِحُ أَحْوَالَهُمْ في الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ إِذا تَمَسَّكُوا بِهِ، وَاهْتَدَوْا بِهَدْيِهِ، قَالَ تعالى: ﴿إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا * وَأَنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا﴾.

وَخُلَاصَةُ القَوْلِ في الإِعْجَازِ التَّشْرِيعِيِّ، أَنَّهُ جَاءَ لِمَصَالِحِ العِبَادِ، وَذَلِكَ بِدَرْءِ المَفَاسِدِ عَنْهُمْ في سِتَّةِ أَشْيَاءَ: حِفْظِ الدِّينِ وَالنَّفْسِ وَالعَقْلِ وَالنَّسَبِ وَالعِرْضِ وَالمَالِ.

وَجَاءَ لِجَلْبِ المَصَالِحِ للعِبَادِ في جَمِيعِ المَيَادِينِ الحِسِّيَّةِ وَالمَعْنَوِيَّةِ، وَسَدَّ عَنْهُمْ كُلَّ ذَرِيعَةٍ تُؤَدِّي إلى الضَّرَرِ بِهِمْ.

كَمَا جَاءَ مِنْ أَجْلِ تَنْمِيَةِ مَكَارِمِ الأَخْلَاقِ، وَمَحَاسِنِ العِبَادَاتِ، كَقَوْلِهِ تعالى: ﴿وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا﴾. وَكَقَوْلِهِ تعالى: ﴿ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ﴾. وَكَقَوْلِهِ تعالى: ﴿وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ * وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللهِ وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلَا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ * إِنَّ اللهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ﴾.

فَالقُرْآنُ الكَرِيمُ الذي أُكْرِمَ بِهِ سَيِّدُنَا مُحَمَّدٌ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ فِيهِ حَلٌّ لِمَشَاكِلِ البَشَرِيَّةِ جَمْعَاءَ، مُؤْمِنِهَا وَكَافِرِهَا، وَمُحْسِنِهَا وَمُسِيئِهَا، التي تَعْجِزُ عَنْهُ البَشَرِيَّةُ جَمْعَاءَ، فَالقُرْآنُ العَظِيمُ مَا تَرَكَ جَانِبًا مِنَ الجَوَانِبِ التي تَحْتَاجُهَا البَشَرِيَّةُ في الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ إِلَّا وَضَعَ لَهَا القَوَاعِدَ، وَهَدَى إِلَيْهَا بِأَقْوَمِ الطُّرُقِ وَأَعْدَلِهَا، وَصَدَقَ اللهُ تعالى القَائِلُ: ﴿إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا﴾.

وَالوَاقِعُ أَكْبَرُ دَلِيلٍ عَلَى ذَلِكَ، حَيْثُ رَأَيْنَا الدُّوَلَ التي حَرَّمَتِ الطَّلَاقَ، وَمَنَعَتْهُ في مُجْتَمَعَاتِهِمْ دَفَعَتْهُمْ نَتَائِجُ الأَحْدَاثِ في بِلَادِهِمْ إلى تَشْرِيعِ الطَّلَاقِ كَمَا هُوَ في القُرْآنِ العَظِيمِ.

**    **    **

تاريخ الكلمة:

الجمعة: 16/شوال /1442هـ، الموافق: 28/ أيار / 2021م

الملف المرفق
 
 
 

مواضيع اخرى ضمن  معجزات ودلائل نبوة خاتم الأنبياء والمرسلين

22-12-2023 241 مشاهدة
21ـ لترين الظعينة ترتحل من الحيرة

مِنَ المُعْجِزَاتِ التي أَيَّدَ بِهَا مَوْلَانَا عَزَّ وَجَلَّ حَبِيبَهُ المُصْطَفَى صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، مَا رَوَاهُ الإِمَامُ البُخَارِيُّ في صَحِيحِهِ عَنْ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: ... المزيد

 22-12-2023
 
 241
08-09-2023 404 مشاهدة
20ـ الشاة المسمومة

مِنَ المُعْجِزَاتِ التي أَيَّدَ بِهَا رَبُّنَا عَزَّ وَجَلَّ سَيِّدَنَا رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، سَلَامَتُهُ مِنَ السُّمِّ المُهْلِكِ لِغَيْرِهِ، وَإِعْلَامُ اللهِ تعالى لَهُ أَنَّهَا مَسْمُومَةٌ، ... المزيد

 08-09-2023
 
 404
07-08-2023 312 مشاهدة
19ـ إذا هلك كسرى فلا كسرى بعده

مِنَ المُعْجِزَاتِ التي أَيَّدَ اللهُ تعالى بِهَا سَيِّدَنَا رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ أَخْبَرَ إِذَا هَلَكَ كِسْرَى فَلَا كِسْرَى بَعْدَهُ، رَوَى الإِمَامُ البُخَارِيُّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ... المزيد

 07-08-2023
 
 312
28-07-2023 539 مشاهدة
18ـ ناولني الذراع

مِنَ المُعْجِزَاتِ التي أَيَّدَ اللهُ تعالى بِهَا سَيِّدَنَا رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ مَا جَاءَ في الحَدِيثِ الشَّرِيفِ الذي رواه الإِمَامُ أَحْمَدُ عَنْ رَجُلٍ مِنْ بَنِي غِفَارٍ كَانَ فِي مَجْلِسِ ... المزيد

 28-07-2023
 
 539
27-10-2022 401 مشاهدة
17ـ انكشاف الضمائر النفسية له صلى الله عليه وسلم

مِنَ المُعْجِزَاتِ التي أَيَّدَ اللهُ تعالى بِهَا سَيِّدَنَا رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ مُعْجِزَةُ انْكِشَافِ الضَّمَائِرِ النَّفْسِيَّةِ لَهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ. ... المزيد

 27-10-2022
 
 401
05-08-2022 322 مشاهدة
16ـ معجزة كلام الشجر وانقياده

مِنَ المُعْجِزَاتِ التي أَيَّدَ اللهُ تعالى بِهَا سَيِّدَنَا رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ مُعْجِزَةُ كَلَامِ الشَّجَرِ وَانْقِيَادِهِ. مَا مِنْ شَيْءٍ في الوُجُودِ إِلَّا وَيَشْهَدُ لِسَيِّدِنَا رَسُولِ ... المزيد

 05-08-2022
 
 322

البحث في الفتاوى

الفتاوى 5613
المقالات 3162
المكتبة الصوتية 4798
الكتب والمؤلفات 20
الزوار 414592844
جميع الحقوق محفوظة لموقع الشيخ أحمد النعسان © 2024 
برمجة وتطوير :