37ـ حال أهل البرزخ من حيث الأعمال التعبدية

37ـ حال أهل البرزخ من حيث الأعمال التعبدية

37ـ حال أهل البرزخ من حيث الأعمال التعبدية

مقدمة الكلمة:

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:

فَيَا أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: يَقُولُ العَلَّامَةُ المُحَدِّثُ سَيِّدِي الشَّيْخُ عَبْدُ اللهِ سِرَاجُ الدِّينِ في كِتَابِهِ (الإِيمَانِ بِعَوَالِمِ الآخِرَةِ وَمَوَاقِفِهَا):

حَالُ أَهْلِ البَرْزَخِ مِنْ حَيْثُ الأَعْمَالُ التَّعَبُّدِيَّةُ

لَقَدْ تَفَضَّلَ اللهُ تعالى عَلَى أَنْبِيَائِهِ صَلَوَاتُ اللهِ عَلَيْهِمْ، بِاسْتِمْرَارِهِمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ وَعِبَادَاتِهِمْ لِرَبِّهِمْ سُبْحَانَهُ وتعالى في عَالَمِ البَرْزَخِ.

جَاءَ في صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، في حَدِيثِ الإِسْرَاءِ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «وَقَدْ رَأَيْتُنِي فِي جَمَاعَةٍ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ، فَإِذَا مُوسَى قَائِمٌ يُصَلِّي، فَإِذَا رَجُلٌ ضَرْبٌ، جَعْدٌ كَأَنَّهُ مِنْ رِجَالِ شَنُوءَةَ، وَإِذَا عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَائِمٌ يُصَلِّي، أَقْرَبُ النَّاسِ بِهِ شَبَهًا عُرْوَةُ بْنُ مَسْعُودٍ الثَّقَفِيُّ، وَإِذَا إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَائِمٌ يُصَلِّي، أَشْبَهُ النَّاسِ بِهِ صَاحِبُكُمْ ـ يَعْنِي نَفْسَهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ ـ فَحَانَتِ الصَّلَاةُ فَأَمَمْتُهُمْ.

فَلَمَّا فَرَغْتُ مِنَ الصَّلَاةِ قَالَ قَائِلٌ: يَا مُحَمَّدُ، هَذَا مَالِكٌ صَاحِبُ النَّارِ، فَسَلِّمْ عَلَيْهِ، فَالْتَفَتُّ إِلَيْهِ، فَبَدَأَنِي بِالسَّلَامِ».

وَفي هَذَا يُخْبِرُ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ عَمَّا رَأَى في لَيْلَةِ الإِسْرَاءِ، وَأَنَّهُ رَأَى الأَنْبِيَاءَ يُصَلُّونَ فُرَادَى، ثُمَّ جَمَعَتْهُمْ صَلَاةٌ وَاحِدَةٌ، فَصَلَّى بِهِمْ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ إِمَامًا.

وَعَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «الأَنْبِيَاءُ أَحْيَاءٌ فِي قُبُورِهِمْ يُصَلُّونَ». رَوَاهُ أَبُو يَعْلَى وَالبيهقي.

وَقَالَ الدَّارِمِيُّ في كِتَابِ السُّنَنِ المَعْرُوفِ عِنْدَ المُحَدِّثِينَ بِمُسْنَدِ الدَّارِمِيِّ: بَابُ مَا أَكْرَمَ اللَّهُ تَعَالَى نَبِيَّهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَ مَوْتِهِ، ثُمَّ رَوَى بِإِسْنَادِهِ عَنْ سَعِيدِ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ قَالَ: لَمَّا كَانَ أَيَّامُ الْحَرَّةِ لَمْ يُؤَذَّنْ فِي مَسْجِدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ ثَلَاثًا، وَلَمْ يُقَمْ (أَيْ: لَمْ يُقَمْ فِيهَا الصَّلَاةُ) وَلَمْ يَبْرَحْ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ الْمَسْجِدَ، وَكَانَ لَا يَعْرِفُ وَقْتَ الصَّلَاةِ إِلَّا بِهَمْهَمَةٍ يَسْمَعُهَا مِنْ قَبْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ.

رواه أبو نعيم في الدَّلَائِلِ، وَالزُّبَيْرُ بْنُ بَكَّارٍ في أَخْبَارِ المَدِينَةِ، وَابْنُ سَعْدٍ في الطَّبَقَاتِ، كَمَا في إِنْبَاهِ الأَذْكِيَاءِ في حَيَاةِ الأَنْبِيَاءِ، للحَافِظِ السُّيُوطِيِّ رَحِمَهُ اللهُ تعالى.

وروى مُسْلِمٌ في صَحِيحِهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ مَرَّ بِوَادِي الْأَزْرَقِ، فَقَالَ: «أَيُّ وَادٍ هَذَا؟».

فَقَالُوا: هَذَا وَادِي الْأَزْرَقِ.

قَالَ: «كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ هَابِطًا مِنَ الثَّنِيَّةِ، وَلَهُ جُؤَارٌ إِلَى اللهِ بِالتَّلْبِيَةِ».

ثُمَّ أَتَى عَلَى ثَنِيَّةِ هَرْشَى، فَقَالَ: «أَيُّ ثَنِيَّةٍ هَذِهِ؟»

قَالُوا: ثَنِيَّةُ هَرْشَى.

قَالَ: «كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى يُونُسَ بْنِ مَتَّى عَلَيْهِ السَّلَامُ عَلَى نَاقَةٍ حَمْرَاءَ جَعْدَةٍ عَلَيْهِ جُبَّةٌ مِنْ صُوفٍ، خِطَامُ نَاقَتِهِ خُلْبَةٌ وَهُوَ يُلَبِّي».

قَالَ القَاضِي عِيَاضٌ رَحِمَهُ اللهُ تعالى عِنْدَ هَذَا الحَدِيثِ: أَكْثَرُ الرِّوَايَاتِ أَنَّهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ رَآهُمْ كَذَلِكَ ـ أَيْ: يُلَبُّونَ حَاجِّينَ ـ لَيْلَةَ الإِسْرَاءِ. اهـ.

قَالَ الحَافِظُ الزَّرْقَانِيُّ: فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ يُصَلِّي الأَنْبِيَاءُ وَهُمْ أَمْوَاتٌ في الدَّارِ الآخِرَةِ، وَهِيَ لَيْسَتْ دَارَ عَمَلٍ، قَالَ: أَجَابَ القَاضِي عِيَاضٌ، وَالعَلَّامَةُ السُّبْكِيُّ؛ بِأَنَّهُمْ كَالشُّهَدَاءِ، بَلْ أَفْضَلَ، وَالشُّهَدَاءُ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ، فَلَا يُسْتَبْعَدُ أَنْ يَحُجُّوا وَيُصَلُّوا، وَأَنْ يَتَقَرَّبُوا إلى اللهِ تعالى مَا اسْتَطَاعُوا؛ لِأَنَّهُمْ وَإِنْ مَاتُوا فَهُمْ في هَذِهِ الدُّنْيَا ـ أَيْ: فَهُمْ لَا يَزَالُونَ في هَذِهِ الدُّنْيَا مِنْ جِهَةٍ، وَلَيْسُوا في الآخِرَةِ مِنْ كُلِّ الاعْتِبَارَاتِ، وَالدُّنْيَا ـ التي هِيَ دَارُ العَمَلِ، حَتَّى إِذَا فَنِيَتْ مُدَّتُهَا، وَتَعْقُبَهَا الآخِرَةُ التي هِيَ دَارُ الجَزَاءِ: انْقَطَعَ العَمَلُ.

وَحَاصِلُهُ أَنَّ أَهْلَ البَرْزَخِ يَنْسَحِبُ عَلَيْهِمْ حُكْمُ الدُّنْيَا في اسْتِكْثَارِهِمْ مِنَ الأَعْمَالِ، وَزِيَادَةِ الأُجُورِ.

ثُمّ قَالَ: وَتَكْفِي رُؤْيَتُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ لِمُوسَى عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَائِمًا يُصَلِّي في قَبْرِهِ؛ وَلِأَنَّ جَمِيعَ الأَنْبِيَاءِ لَمْ يُقْبَضُوا حَتَّى خُيِّرُوا في البَقَاءِ في الدُّنْيَا وَبَيْنَ الآخِرَةِ، وَلَا شَكَّ أَنَّهُمْ لَو بَقَوْا في الدُّنْيَا لَازْدَادُوا مِنَ الأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ، ثُمَّ انْتَقَلُوا إلى الجَنَّةِ، فَلَو لَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ انْتِقَالَهُمْ إلى اللهِ تعالى ـ بِسَبَبِ المَوْتِ ـ أَكْمَلُ لَمَا اخْتَارُوهُ، وَلَو كَانَ انْتِقَالُهُمْ مِنْ هَذِهِ الدَّارِ يُفَوِّتُ عَلَيْهِمْ الزِّيَادَةَ فِيمَا يُقَرِّبُ إلى اللهِ تعالى لَمَا اخْتَارُوا الانْتِقَالَ. اهـ. انْظُرْ شَرْحَ الزَّرْقَانِيِّ عَلَى المَوَاهِبِ.

**    **    **

تاريخ الكلمة:

الخميس: 15/ شوال/1442هـ، الموافق: 27/ أيار / 2021م

الملف المرفق
 
 
 

مواضيع اخرى ضمن  الإيمان بعوالم الآخرة ومواقفها

11-01-2024 199 مشاهدة
60ـ يستقبل أمته على الحوض

سَيِّدُنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ يَسْتَقْبِلُ أُمَّتَهُ عَلَى الحَوْضِ وَيَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ مِنْ بَيْنِ الأُمَمِ: ... المزيد

 11-01-2024
 
 199
29-12-2023 211 مشاهدة
59ـ ينتظر الواردين من أمته

رَوَى الشَّيْخَانِ عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ خَرَجَ يَوْمًا، فَصَلَّى عَلَى أَهْلِ أُحُدٍ صَلَاتَهُ عَلَى المَيِّتِ، ثُمَّ انْصَرَفَ إِلَى المِنْبَرِ، ... المزيد

 29-12-2023
 
 211
14-12-2023 226 مشاهدة
58ـ عالم الحوض

قَالَ اللهُ تعالى: ﴿إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ * فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ * إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ﴾. في هَذِهِ السُّورَةِ الكَرِيمَةِ يَذْكُرُ اللهُ تعالى فَضْلَهُ العَظِيمَ عَلَى رَسُولِهِ الكَرِيمِ سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ صَلَّى ... المزيد

 14-12-2023
 
 226
28-09-2023 519 مشاهدة
57ـ لواء الحمد

لَقَدْ ثَبَتَ بِالأَحَادِيثِ النَّبَوِيَّةِ أَنَّ لِسَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ لِوَاءً عَالِيًا عَلَى جَمِيعِ أَلْوِيَةِ الشَّرَفِ وَالكَرَامَةِ، وَاسِعًا كُلَّ السَّعَةِ، يَأْوِي ... المزيد

 28-09-2023
 
 519
16-09-2023 505 مشاهدة
56ـ حشر كل إنسان مع محبوبه

رَوَى الشَّيْخَانِ عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، أَنَّ رَجُلًا سَأَلَ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ عَنِ السَّاعَةِ، فَقَالَ: مَتَى السَّاعَةُ؟ قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: ... المزيد

 16-09-2023
 
 505
25-07-2023 295 مشاهدة
55ـ طول الموقف يوم القيامة

قَالَ تعالى: ﴿سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ * لِلْكَافِرِينَ لَيْسَ لَهُ دَافِعٌ * مِنَ اللهِ ذِي الْمَعَارِجِ * تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ * فَاصْبِرْ صَبْرًا جَمِيلًا * ... المزيد

 25-07-2023
 
 295

البحث في الفتاوى

الفتاوى 5613
المقالات 3165
المكتبة الصوتية 4802
الكتب والمؤلفات 20
الزوار 414951702
جميع الحقوق محفوظة لموقع الشيخ أحمد النعسان © 2024 
برمجة وتطوير :