السؤال :
مَا تَفْسِيرُ قَوْلِ اللهِ تعالى: ﴿أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ﴾؟
 الاجابة :
رقم الفتوى : 13228
 2024-07-25

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:

فَصَدْرُ هَذِهِ الآيَةِ الكَرِيمَةِ قَوْلُهُ تعالى: ﴿وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَقَفَّيْنَا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ﴾.

فَاليَهُودُ لَعَنَهُمُ اللهُ قُسَاةُ القُلُوبِ، عَبَدَةُ المَصَالِحِ المَادِّيَّةِ، وَالأَهْوَاءِ الذَّاتِيَّةِ، فَتَجَدَّدَتْ فِيهِمُ الإِنْذَارَاتُ الإِلَهِيَّةُ، وَأُرْسِلَتْ إِلَيْهِمُ الرُّسُلُ، بَعْضُهُمْ إِثْرَ بَعْضٍ، فَكَانَ بَنُو إِسْرَائِيلَ أَكْثَرَ الشُّعُوبِ حَظًّا في عَدَدِ الرُّسُلِ الذينَ أُرْسِلُوا إِلَيْهِمْ، وَمَعَ ذَلِكَ كَانُوا يَنْسَوْنَ الإِنْذَارَاتِ، وَيُحَرِّفُونَ الشَّرَائِعَ، وَيَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ، وَيَعْصُونَ رُسُلَهُمْ، إِمَّا بِالتَّكْذِيبِ وَإِمَّا بِالقَتْلِ.

وَهَذِهِ الآيَاتِ تَذْكِيرٌ لَهُمْ بِإِعْطَاءِ مُوسَى التَّوْرَاةَ، وَإِتْبَاعِهِ بِالرُّسُلِ: ﴿ثُمَّ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا تَتْرَا﴾ وَهُمْ يُوشَعُ وَدَاوُدُ وَسُلَيْمَانُ وَعُزَيْرٌ وَإِلْيَاسُ وَالْيَسَعُ وَيُونُسُ وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى عَلَيْهِمُ السَّلَامُ، وَكَانُوا كُلُّهُمْ يَحْكُمُونَ بِشَرِيعَةِ مُوسَى، كَمَا قَالَ تعالى: ﴿إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْراةَ فِيها هُدىً وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا﴾ الآية.

إِلَّا أَنَّ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ جَاءَ بِمُخَالَفَةِ التَّوْرَاةِ في بَعْضِ الأَحْكَامِ، وَلِهَذَا أَعْطَاهُ اللهُ مِنَ البَيِّنَاتِ ـ وَهِيَ المُعْجِزَاتُ كَإِحْيَاءِ المَوْتَى وَخَلْقِهِ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ، فَيَنْفُخُ فِيهَا، فَتَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللهِ، وَإِبْرَاءِ الأَسْقَامِ، وَإِخْبَارِهِ بِالغُيُوبِ، وَتَأْيِيدِهِ بِرُوحِ القُدُسِ وَهُوَ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ ـ مَا يَدُلُّهُمْ عَلَى صِدْقِهِ فِيمَا جَاءَهُمْ بِهِ، فَاشْتَدَّ تَكْذِيبُ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَهُ، وَحَسَدُهُمْ وَعِنَادُهُمْ لِمُخَالَفَةِ التَّوْرَاةِ في بَعْضِ الأَحْكَامِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى إِخْبَارًا عَنْ عِيسَى: ﴿وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ﴾.

وَكَانَتِ النَّتِيجَةُ أَنَّهُ كُلَّمَا جَاءَهُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَمِيلُ إِلَيْهِ نُفُوسُهُمْ، وَهِيَ لَا تَمِيلُ إِلَى الخَيْرِ دَائِمًا، كَفَرُوا بِهِ وَاسْتَكْبَرُوا عَلَيْهِ تَجَبُّرًا وَبَغْيًا، فَمِنْهُمْ مَنْ كَذَّبُوهُ كَعِيسَى وَمُحَمَّدٍ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَتَلُوهُ كَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى عَلَيْهِمَا السَّلَامُ، فَلَا غَرَابَةَ بَعْدَئِذٍ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِدَعْوَةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، فَإِنَّ العِنَادَ مِنْ طَبْعِهِمْ؛ وَالخِطَابُ لِجَمِيعِ اليَهُودِ، لِأَنَّهُمْ فَعَلُوا ذَلِكَ في الَماضِي وَرَضِيَ عَنْهُمْ أَوْلَادُهُمْ ،فَهُم شُرَكَاءُ مَعَهُم فِي القَتْلِ.

وَبِنَاءً عَلَى ذَلِكَ:

فَالعِصْمَةُ مِنَ اللهِ تعالى للرُّسُلِ مِنَ القَتلِ أَمْرٌ مُحَقَّقٌ، وَلَمْ يَمُتْ رَسُولٌ وَلَمْ يُقْتَلْ إِلَّا بَعْدَ تَبْلِيغِ رِسَالَةِ اللهِ تعالى، وَأَمَّا قَتْلُ الأَنْبِيَاءِ الذينَ أَرْسَلَهُمُ اللهُ تعالى في تَبْلِيغِ رِسَالَةِ رَسُولٍ مِنَ الرُّسُلِ فَلَا إِشْكَالَ فِيهِ، لِأَنَّهُمْ يُذَكِّرُونَ الأُمَمَ بِمَا جَاءَ بِهِ رَسُولُهُمْ مِنْ قَبْلُ، كَمَا جَاءَ في الآيَاتِ السَّابِقَةِ. هذا، والله تعالى أعلم.