طباعة |
79ـ أشهد لي بذلك أيها أمير | |
79ـ أشهد لي بذلك أيها أمير مقدمة الكلمة: الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين. أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: يَرْوِي دُكَيْنُ بْنُ سَعِيدٍ الدَّارِمِيُّ أَحَدُ الشُّعَرَاءِ الرُّجَّازِ البُدَاةِ فَيَقُولُ: امْتَدَحْتُ عُمَرَ بْنَ عَبْدِ العَزِيزِ يَوْمَ كَانَ وَالِيًا عَلَى المَدِينَةِ، فَأَمَرَ لِي بِخَمْسَ عَشْرَةَ نَاقَةً مِنْ كَرَائِمِ الإِبِلِ. فَلَمَّا صِرْنَ في يَدِي تَأَمَّلْتُهُنَّ، فَرَاعَنِي مَنْظَرُهُنَّ، وَكَرِهْتُ أَنْ أَمْضِيَ بِهِنَّ وَحْدِي في فِجَاجِ الأَرْضِ خَوْفًا عَلَيْهِنَّ، وَلَمْ تَطِبْ نَفْسِي بِبَيْعِهِنَّ. وَفِيمَا أَنَا كَذَلِكَ قَدِمَتْ عَلَيْنَا رُفْقَةٌ تَبْتَغِي السَّفَرَ نَحْوَ دِيَارِنَا في نَجْدٍ، فَسَأَلْتُهُمُ الصُّحْبَةَ، فَقَالُوا: مَرْحَبًا بِكَ، وَنَحْنُ نَخْرُجُ اللَّيْلَةَ، فَأَعِدَّ نَفْسَكَ للخُرُوجِ مَعَنَا. فَمَضَيْتُ إلى عُمَرَ بْنِ عَبْدِ العَزِيزِ مُوَدِّعًا، فَأَلْفَيْتُ في مَجْلِسِهِ شَيْخَيْنِ لَا أَعْرِفُهُمَا؛ فَلَمَّا هَمَمْتُ بِالانْصِرَافِ الْتَفَتَ إِلَيَّ عُمَرُ وَقَالَ: يَا دُكَيْنُ، إِنَّ لِي نَفْسًا تَوَّاقَةً، فَإِنْ عَرَفْتَ أَنَّنِي بَلَغْتُ أَكْثَرَ مِمَّا أَنَا فِيهِ الآنَ، فَأْتِنِي، وَلَكَ مِنِّيَ البِرُّ وَالإِحْسَانُ. فَقُلْتُ: أَشْهِدْ لِي بِذَلِكَ أَيُّهَا الأَمِيرُ. فَقَالَ: أُشْهِدُ اللهَ تعالى عَلَى ذَلِكَ. فَقُلْتُ: وَمِنْ خَلْقِهِ. فَقَالَ: هَذَيْنِ الشَّيْخَيْنِ. فَأَقْبَلْتُ عَلَى أَحَدِهِمَا وَقُلْتُ: بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي، قُلْ لِي مَا اسْمُكَ حَتَّى أَعْرِفَكَ؟ فَقَالَ: سَالِمُ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ بْنِ الخَطَّابِ. فَالْتَفَتُّ إلى الأَمِيرِ وَقُلْتُ: لَقَدِ اسْتَسْمَنْتُ الشَّاهِدَ (ظَفَرْتُ بِشَاهِدٍ مَسْمُوعِ الكَلِمَةِ). ثُمَّ نَظَرْتُ إلى الشَّيْخِ الآخَرِ، وَقُلْتُ: وَمَنْ أَنْتَ جُعِلْتُ فِدَاكَ؟ فَقَال: أَبُو يَحْيَى مَوْلَى الأَمِيرِ. فَقُلْتُ: وَهَذَا شَاهِدٌ مِنْ أَهْلِهِ. ثُمَّ حَيَّيْتُ وَانْصَرَفْتُ بِالنُّوقِ إلى دِيَارِ قَوْمِي في نَجْدٍ. فَرَمَى اللهُ فِيهِنَّ البَرَكَةَ حَتَّى اقْتَنَيْتُ مِنْ نِتَاجِهِنَّ الإِبِلَ وَالعَبِيدَ. ثُمَّ دَارَتِ الأَيَّامُ دَوْرَتَهَا، فَبَيْنَا أَنَا بِصَحْرَاءِ فَلْجٍ مِنْ أَرْضِ اليَمَامَةِ في نَجْدٍ إِذَا نَاعٍ يَنْعِي أَمِيرَ المُؤْمِنِينَ سُلَيْمَانَ بْنَ عَبْدِ المَلِكِ، فَقُلْتُ للنَّاعِي: وَمَنِ الخَلِيفَةُ الذي قَامَ بَعْدَهُ؟ فَقَالَ: عُمَرُ بْنُ عَبْدِ العَزِيزِ. فَمَا أَنْ سَمِعْتُ مَقَالَتَهُ حَتَّى شَدَدْتُ رِحَالِي نَحْوَ بِلَادِ الشَّامِ. فَلَمَّا بَلَغْتُ دِمَشْقَ لَقِيتُ جَرِيرًا مُنْصَرِفًا مِنْ عِنْدَ الخَلِيفَةِ، فَحَيَّيْتُهُ وَقُلْتُ: مِنْ أَيْنَ أَنَا يَا أَبَا حَزْرَةَ؟ فَقَالَ: مِنْ عِنْدِ خَلِيفَةٍ يُعْطِي الفُقَرَاءَ، وَيَمْنَعُ الشُّعَرَاءَ، ارْجِعْ مِنْ حَيْثُ أَتَيْتَ، فَذَلِكَ خَيْرٌ لَكَ. فَقُلْتُ: إِنَّ لِي شَأْنًا غَيْرُ شَأْنِكُمْ. فَقَالَ: أَنْتَ وَمَا تُرِيدُ. فَانْطَلَقْتُ حَتَّى بَلَغْتُ دَارَ الخَلِيفَةِ، فَإِذَا هُوَ في بَاحَةِ الدَّارِ، وَقَدْ أَحَاطَ بِهِ اليَتَامَى، وَالأَرَامِلُ، وَأَصْحَابُ الظُّلَامَاتِ، فَلَمْ أَجِدْ سَبِيلًا إِلَيْهِ مِنْ تَزَاحُمِهِمْ عَلَيْهِ؛ فَرَفَعْتُ صَوْتِيَ قَائِلًا: يَــا عُـمَرَ الخَيْرَاتِ وَالمَكَارِمِ *** وَعُــمَرَ الــدَّسَائِعِ الـعَظَائِمِ إِنِّي امْرُؤٌ مِنْ قَطَنٍ مِـنْ دَارِمِ *** طَلَبْتُ دَيْنِي مِنْ أَخِي المَكَارِمِ فَنَظَر إِلَيَّ مَوْلَاهُ أَبُو يَحْيَى نَظْرَةً طَوِيلَةً، ثُمَّ الْتَفَتَ إِلَيْهِ وَقَالَ: يَا أَمِيرَ المُؤْمِنِينَ، إِنَّ عِنْدِي لِهَذَا البَدَوِيِّ شَهَادَةً عَلَيْكَ. فَقَالَ عُمَرُ: أَعْرِفُهَا. ثُمَّ الْتَفَتَ إِلَيَّ وَقَالَ: ادْنُ مِنِّي يَا دُكَيْنُ. فَلَمَّا صِرْتُ بَيْنَ يَدَيْهِ مَالَ عَلَيَّ وَقَالَ: أَتَذْكُرُ مَا قُلْتُهُ لَكَ في المَدِينَةِ مِنْ أَنَّ نَفْسِي مَا نَالَتْ شَيْئًا قَطُّ إِلَّا تَاقَتْ إلى مَا هُوَ أَعْلَى مِنْهُ. فَقُلْتُ: نَعَمْ يَا أَمِيرَ المُؤْمِنِينَ. فَقَالَ: وَهَا أَنَا ذَا قَدْ نِلْتُ غَايَةَ مَا في الدُّنْيَا، وَهُوَ المُلْكُ، فَنَفْسِي تَتُوقُ إلى غَايَةِ مَا في الآخِرَةِ، وَهُوَ الجَنَّةُ، وَتَسْعَى إلى الفَوْزِ بِرِضْوَانِ اللهِ تعالى، وَلَئِنْ كَانَ المُلُوكُ يَجْعَلُونَ المُلْكَ سَبِيلًا لِبُلُوغِ عِزِّ الدُّنْيَا، فَلَأَجْعَلَنَّهُ سَبِيلًا إلى بُلُوغِ عِزِّ الآخِرَةِ. ثُمَّ قَالَ: يَا دُكَيْنُ، إِنِّي ـ وَاللهِ ـ مَا رَزَأْتُ (أَخَذْتُ) المُسْلِمِينَ في أَمْوَالِهِمْ دِرْهَمًا وَلَا دِينَارًا مُنْذُ وَلِيتُ هَذَا الأَمْرَ، وَإِنَّنِي لَا أَمْلِكُ إِلَّا أَلْفَ دِرْهَمٍ، فَخُذْ نِصْفَهَا وَاتْرُكْ لي نِصْفَهَا. فَأَخَذْتُ المَالَ الذي أَعْطَانِيهِ، فَوَاللهِ مَا رَأَيْتُ أَعْظَمَ مِنْهُ بَرَكَةً. ** ** ** تاريخ الكلمة: يوم الاثنين: 19/ رمضان / 1444 هـ، الموافق: 10/ نيسان / 2023 م |
|
جميع الحقوق محفوظة © 2024 https://www.naasan.net/print.ph/ |