883ـ خطبة الجمعة: تحمل الصعاب سبيل الوصول إلى الجنة

883ـ خطبة الجمعة: تحمل الصعاب سبيل الوصول إلى الجنة

مقدمة الخطبة:

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

أَمَّا بَعْدُ، فَيَا عِبَادَ اللهِ: نَحْنُ في أَيَّامِ فِتَنٍ وَمِحَنٍ وَعَقَبَاتٍ كَبِيرَةٍ، وَمَشَقَّاتٍ صَعْبَةٍ، تَعْصِفُ بِالأُمَّةِ عَصْفًا، فَالمُؤْمِنُ إِمَّا أَنْ يَكُونَ صُلْبًا في إِيمَانِهِ دَائِمًا وَأَبَدًا، وَيَسْتَحْضِرَ سَاعَةَ الوُقُوفِ بَيْنَ يَدَيِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَيَسْتَحْضِرَ الجَنَّةَ وَالنَّارَ، وَيَسْتَحْضِرَ الخِطَابَ: ﴿فَرِيقٌ في الجَنَّةِ وَفَرِيقٌ في السَّعِيرِ﴾. فَتَهُونَ عَلَيْهِ جَمِيعُ الفِتَنِ وَالعَقَبَاتِ وَالمَشَقَّاتِ.

وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ ضَعِيفًا هَزِيلَ الإِيمَانِ، فَتَعْصِفَ بِهِ الفِتَنُ وَالعَقَبَاتُ وَالمَشَقَّاتُ، فَيَخْسَرَ الدُّنْيَا وَالآخِرَةَ.

فَمَنْ ظَنَّ أَنَّ طَرِيقَ الجَنَّةِ طَرِيقٌ سَهْلٌ مُعَبَّدٌ مَفْرُوشٌ بِالرَّيَاحِينِ، فَقَدْ أَخْطَأَ الظَّنَّ، وَعَلَيْهِ أَنْ يَتَذَكَرَ قَوْلَ اللهِ تعالى: ﴿أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللهِ قَرِيبٌ﴾.

وَقَوْلَهُ تعالى: ﴿أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا وَلَمَّا يَعْلَمِ اللهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللهِ وَلَا رَسُولِهِ وَلَا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً وَاللهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ﴾.

وَقَوْلَهُ تعالى: ﴿الم * أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ﴾.

أَهَمِّيَّةُ تَحَمُّلِ الصِّعَابِ وَالمَشَاقِّ في سَبِيلِ الوُصُولِ إلى الجَنَّةِ:

يَا عِبَادَ اللهِ: يَجِبُ عَلَى المُؤْمِنِ أَنْ يَتَحَمَّلَ المَشَاقَّ وَالصِّعَابَ في هَذِهِ الحَيَاةِ الدُّنْيَا حَتَّى يَصِلَ إلى النَّعِيمِ المُقِيمِ، لِيَسْمَعَ السَّلَامَ مِنْ حَضْرَةِ السَّلَامِ: ﴿سَلَامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ﴾. لِيَسْمَعَ مِنْ حَضْرَةِ المَلَائِكَةِ الكِرَامِ: ﴿سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ﴾. ﴿سَلَامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ﴾.

لِيَسْمَعَ أَلَذَّ خِطَابٍ وَأَعْظَمَهُ وَأَجْمَلَهُ: «يَا أَهْلَ الجَنَّةِ خُلُودٌ فَلَا مَوْتَ».

يَا عِبَادَ اللهِ: نَحْنُ في هَذِهِ الآوِنَةِ يَجِبُ أَنْ نَأْخُذَ الجُرْعَاتِ الإِيمَانِيَّةَ مِنْ حَضْرَةِ الصَّادِقِ الأَمِينِ سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، رَوَى الإِمَامُ البُخَارِيُّ عَنْ خَبَّابِ بْنِ الأَرَتِّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: شَكَوْنَا إِلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، وَهُوَ مُتَوَسِّدٌ بُرْدَةً لَهُ فِي ظِلِّ الكَعْبَةِ، قُلْنَا لَهُ: أَلَا تَسْتَنْصِرُ لَنَا، أَلَا تَدْعُو اللهَ لَنَا؟

قَالَ: «كَانَ الرَّجُلُ فِيمَنْ قَبْلَكُمْ يُحْفَرُ لَهُ فِي الأَرْضِ، فَيُجْعَلُ فِيهِ، فَيُجَاءُ بِالْمِنْشَارِ فَيُوضَعُ عَلَى رَأْسِهِ فَيُشَقُّ بِاثْنَتَيْنِ، وَمَا يَصُدُّهُ ذَلِكَ عَنْ دِينِهِ، وَيُمْشَطُ بِأَمْشَاطِ الحَدِيدِ مَا دُونَ لَحْمِهِ مِنْ عَظْمٍ أَوْ عَصَبٍ، وَمَا يَصُدُّهُ ذَلِكَ عَنْ دِينِهِ، وَاللهِ لَيُتِمَّنَّ هَذَا الأَمْرَ، حَتَّى يَسِيرَ الرَّاكِبُ مِنْ صَنْعَاءَ إِلَى حَضْرَمَوْتَ، لَا يَخَافُ إِلَّا اللهَ، أَوِ الذِّئْبَ عَلَى غَنَمِهِ، وَلَكِنَّكُمْ تَسْتَعْجِلُونَ».

وَأَنَا أَقُولُ: وَوَاللهِ سَتَنْفَرِجُ هَذِهِ الأَزْمَةُ، وَسَتَنْكَشِفُ هَذِهِ الغُمَّةُ، إِذَا صَبَرْنَا وَاتَّقَيْنَا اللهَ عَزَّ وَجَلَّ، وَأَنَا لَا أَتَأَلَّى عَلَى اللهِ تعالى، بَلْ أَقُولُ هَذَا مِنْ خِلَالِ قَوْلِهِ تعالى: ﴿وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إِنَّ اللهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ﴾. أَيُّ كَيْدٍ لَا يَضرُّنَا؟ الكَيْدُ الذي قَالَ اللهُ تعالى في حَقِّ أَهْلِهِ: ﴿وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ﴾.

تَذَكَّرُوا يَا عِبَادَ اللهِ، يَوْمَ مَرَّ سَيِّدُنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ عَلَى سَيِّدِنَا عَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَهُمْ يُعَذَّبُونَ مِنْ قِبَلِ مُشْرِكِي مَكَّةَ ـ وَأَهْلُ مَكَّةَ هُمْ أَهْلُ الشَّهَامَةِ وَالرُّجُولَةِ وَالنَّجْدَةِ، وَلَكِنَّ حِقْدَهُمُ الدَّفِينَ عَلَى المُسْلِمِينَ أَعْمَى أَبْصَارَهُمْ عَنِ الحَقِّ، وَجَعَلَ قُلُوبَهُمْ أَقْسَى مِنَ الحَجَرِ ـ مَاذَا فَعَلَ سَيِّدُنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ مَعَ هَؤُلَاءِ المُسْتَضْعَفِينَ؟ مَا كَانَ مِنْهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ إِلَّا أَنْ ذَكَّرَهُمْ بِالغَايَةِ القُصْوَى التي يَرْجُونَهَا مِنْ خِلَالِ إِيمَانِهِمْ، فَقَالَ لَهُمْ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «صَبْرًا يَا آلَ يَاسِرٍ، فَإِنَّ مَوْعِدَكُمُ الْجَنَّةُ» رَوَاهُ الحَاكِمُ.

خَاتِمَةٌ ـ نَسْأَلُ اللهَ تعالى حُسْنَ الخَاتِمَةَ ـ:

يَا عِبَادَ اللهِ: وَهَا نَحْنُ نُدْرِكُ شَيْئًا يَسِيرًا مِنْ هَذِهِ الفِتَنِ مِنْ خِلَالِ الحِصَارِ الاقْتِصَادِيِّ، وَغَلَاءِ الأَسْعَارِ، وَقَسْوَةِ التُّجَّارِ، وَمِنْ نَزْعِ الشَّفَقَةِ وَالرَّحْمَةِ مِنْ قُلُوبٍ كَثِيرٍ مِنَ النَّاسِ مِنْ أَصْحَابِ اليَسَارِ، وَمِنْ خِلَالِ الظُّلْمِ الذي عَمَّ وَطَمَّ؛ فَهَلْ سَنَتَحَمَّلُ هَذَا في سَبِيلِ الحِفَاظِ عَلَى دِينِنَا، أَمْ نَضْعُفُ وَنَبِيعُ دِينَنَا بِشَيْءٍ مِنْ حُطَامِ الدُّنْيَا.

عَلَيْنَا يَا عِبَادَ اللهِ أَنْ نَسْتَعِينَ بِاللهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَأَنْ نَصْبِرَ، كَمَا قَالَ تعالى: ﴿وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللهِ﴾. وَكَمَا قَالَ تعالى: ﴿وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا﴾.

يَا عِبَادَ اللهِ: الصَّبْرُ خَيْرُ عَطَاءٍ بِشَهَادَةِ الصَّادِقِ الأَمِينِ سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ القَائِلِ: «وَمَنْ يَصْبِرْ يُصَبِّرْهُ اللهُ، وَمَا أُعْطِيَ أَحَدٌ مِنْ عَطَاءٍ خَيْرٌ وَأَوْسَعُ مِنَ الصَّبْرِ» رَوَاهُ الشَّيْخَانِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.

كَلِمَةٌ عَظِيمَةٌ مِنْ جَوَامِعِ كَلِمِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، يَجِبُ أَنْ تَكُونَ مِنْهَاجًا للمُسْلِمِ في حَيَاتِهِ، وَخَاصَّةً أَيَّامَ المُلِمَّاتِ وَالشَّدَائِدِ وَالمِحَنِ وَالابْتِلَاءَاتِ.

بِهَذِهِ الكَلِمَةِ فَازَ الصَّحَابَةُ الكِرَامُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ، وَدَانَتْ لَهُمْ فَارِسُ وَالرُّومُ، وَدَفَعُوا لَهُمُ الجِزْيَةَ، وَفَازُوا بِجَنَّةٍ عَرضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ.

بِهَذِهِ الكَلِمَةِ سَادُوا في الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ، فَالصَّبْرُ عَطَاءٌ مِنَ اللهِ، وَمَا أَعْظَمَ آثَارَهُ عِنْدَمَا يَجْعَلُ المُسْلِمُونَ شِعَارَهُمْ أَيَّامَ المِحَنِ، كَمَا قَالَ تعالى: ﴿الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ * فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللهِ وَاللهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ﴾.

فَأَكْثِرُوا يَا عِبَادَ اللهِ في هَذِهِ الآوِنَةِ مِنْ قَوْلِ: حَسْبُنَا اللهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ؛ وَأَنْتُمْ تَتَطَلَّعُونَ إلى قَوْلِهِ تعالى: ﴿فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللهِ وَفَضْلٍ﴾.

يَا رَبِّ بِهِمْ وَبِآلِهِمِ عَجِّلْ بِالنَّصْرِ وَبِالفَرَجِ. آمين.

أقول هذا القول، وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

**    **    **

تاريخ الخطبة:

الجمعة: 9/ صفر /1445هـ، الموافق: 25/ آب / 2023م