طباعة |
61ـ الشفاعة وأنواعها | |
61ـ الشفاعة وأنواعها مقدمة الكلمة: الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد: فَيَا أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: يَقُولُ العَلَّامَةُ المُحَدِّثُ سَيِّدِي الشَّيْخُ عَبْدُ اللهِ سِرَاجُ الدِّينِ في كِتَابِهِ (الإِيمَانِ بِعَوَالِمِ الآخِرَةِ وَمَوَاقِفِهَا): الشَّفَاعَةُ وَأَنْوَاعُهَا: الشَّفَاعَةُ كَمَا قَالَ الحَافِظُ الزَّرْقَانِيُّ: هِيَ انْضِمَامُ الأَدْنَى ـ أَيْ: لُجُوءُهُ وَقَصْدُهُ ـ إلى الأَعْلَى، لِيَسْتَعِينَ بِهِ عَلَى مَا يَرُومُهُ، أَيْ: في جَلْبِ مَنْفَعَةٍ، أَو دَفْعِ مَضَرَّةٍ عَنِ المَشْفُوعِ بِهِ. وَالشَّفَاعَةُ عِنْدَ اللهِ تعالى لَا يَتَقَدَّمُ إِلَيْهَا أَحَدٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ سُبْحَانَهُ، قَالَ تعالى: ﴿مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ﴾. فَهُوَ سُبْحَانَهُ يَأْذَنُ لِمَنْ يَشَاءُ، وَيُشَفِّعُهُ بِمَنْ شَاءَ، قَالَ تعالى: ﴿وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى﴾. وَالشَّفَاعَةُ يَوْمَ القِيَامَةِ عَلَى أَنْوَاعٍ مُتَعَدِّدَةٍ: أَوَّلُهَا وَأَعْظَمُهَا وَأَعَمُّهَا: الشَّفَاعَةُ العُظْمَى، وَتُسَمَّى الشَّفَاعَةَ الكُبْرَى، وَهِيَ الشَّفَاعَةُ العَامَّةُ التي تَعُمُّ جَمِيعَ أَهْلِ المَوْقِفِ عَلَى مُخْتَلَفِ أَدْيَانِهِمْ، وَبِهَا يَتَخَلَّصُونَ مِنْ أَهْوَالِ المَوْقِفِ وَكُرُبَاتِهِ بَعْدَ اشْتِدَادِهَا وَطُولِهَا، ثُمَّ يَنْفَضُّ أَمْرُهُمْ إلى عَالَمِ العَرْضِ وَالحِسَابِ وَالمِيزَانِ، كَمَا سَيَأْتِي إِنْ شَاءَ اللهُ تعالى. وَالشَّفَاعَةُ العُظْمَى هِيَ مِنْ خَصَائِصِ سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، وَهِيَ أَوَّلُ الشَّفَاعَاتِ، وَهِيَ بَابُ الشَّفَاعَاتِ كُلِّهَا، وَهِيَ المَقَامُ المَحْمُودِ الذي يَقُومُ بِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ كَمَا وَعَدَهُ اللهُ تعالى بِذَلِكَ في قَوْلِهِ تعالى: ﴿وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا﴾. وَإِنَّمَا سُمِّيَ مَقَامُ شَفَاعَتِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ العُظْمَى، سُمِّيَ مَقَامًا مَحْمُودًا لِأَنَّ أَهْلَ المَوْقِفِ كُلَّهُمْ بَرَّهُمْ وَفَاجِرَهُمْ، سَعِيدَهُمْ وَشَقِيَّهُمْ، يَحْمَدُونَ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، وَيُثْنُونَ عَلَيْهِ لمَّا يَشْفَعُ بِهِمْ، وَيُنْقِذُهُمْ مِنْ أَهْوَالِ المَوْقِفِ وَشَدَائِدِهِ. قَالَ البُخَارِيُّ: بَابُ قَوْلِهِ تعالى: ﴿عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا﴾. ثُمَّ أَسْنَدَ إلى ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ: إِنَّ النَّاسَ يَصِيرُونَ يَوْمَ القِيَامَةِ جُثًا، كُلُّ أُمَّةٍ تَتْبَعُ نَبِيَّهَا يَقُولُونَ: يَا فُلَانُ اشْفَعْ، يَا فُلَانُ اشْفَعْ، حَتَّى تَنْتَهِيَ الشَّفَاعَةُ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، فَذَلِكَ يَوْمَ يَبْعَثُهُ اللهُ المَقَامَ المَحْمُودَ. وَسَبَبُ هَذِهِ الشَّفَاعَةِ العَامَّةِ أَنَّ أَهْلَ المَوْقِفِ لَمَّا تَشْتَدُّ عَلَيْهِمُ الأَهْوَالُ وَيَطُولُ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ، حَتَّى إِنَّ الكَافِرَ يَتَمَنَّى أَنْ يَنْفَضَّ أَمْرُهُ وَلَو إلى النَّارِ، كَمَا في الحَدِيثِ الشَّرِيفِ الذي رواه الطَّبَرَانِيُّ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِنَّ الرَّجُلَ ـ وَفي رِوَايَةٍ مَوْقُوفَةٍ: إِنَّ الكَافِرَ ـ لَيُلْجِمُهُ الْعَرَقُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَيَقُولُ: رَبِّ أَرِحْنِي وَلَوْ إِلَى النَّارِ». فَحِينَ يَطُولُ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ وَيَشْتَدُّ وَيَمْتَدُّ، يَلْتَمِسُونَ شَفِيعًا لَهُمْ يُنْقِذُهُمْ مِنْ تِلْكَ المَآزِقِ، وَيُخْرِجُهُمْ مِنْ هَاتِيكَ المَضَايِقِ، فَيَفْزَعُونَ إلى أَبِيهِمْ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، ثُمَّ إلى نُوحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَكُلٌّ مِنَ الرُّسُلِ يَعْتَذِرُ، ثُمَّ وَثُمَّ حَتَّى يَنْتَهِيَ الأَمْرُ إلى الحَبِيبِ الأَكْرَمِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، الذي أَهَّلَهُ اللهُ تعالى لِذَلِكَ المَقَامِ وَأَكْرَمَهُ بِهِ، فَيَقُولُ: «أَنَا لَهَا، أَنَا لَهَا» صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ. رَوَى الشَّيْخَانِ، وَالتِّرْمِذِيُّ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: أُتِيَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ يَوْمًا بِلَحْمٍ، فَرُفِعَ إِلَيْهِ الذِّرَاعُ، وَكَانَتْ تُعْجِبُهُ، فَنَهَسَ مِنْهَا نَهْسَةً فَقَالَ: «أَنَا سَيِّدُ النَّاسِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَهَلْ تَدْرُونَ بِمَ ذَاكَ؟ يَجْمَعُ اللهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ، فَيُسْمِعُهُمُ الدَّاعِي، وَيَنْفُذُهُمُ الْبَصَرُ، وَتَدْنُو الشَّمْسُ فَيَبْلُغُ النَّاسَ مِنَ الْغَمِّ وَالْكَرْبِ مَا لَا يُطِيقُونَ، وَمَا لَا يَحْتَمِلُونَ. فَيَقُولُ بَعْضُ النَّاسِ لِبَعْضٍ: أَلَا تَرَوْنَ مَا أَنْتُمْ فِيهِ؟ أَلَا تَرَوْنَ مَا قَدْ بَلَغَكُمْ؟ أَلَا تَنْظُرُونَ مَنْ يَشْفَعُ لَكُمْ إِلَى رَبِّكُمْ؟ فَيَقُولُ بَعْضُ النَّاسِ لِبَعْضٍ: ائْتُوا آدَمَ، فَيَأْتُونَ آدَمَ، فَيَقُولُونَ: يَا آدَمُ، أَنْتَ أَبُو الْبَشَرِ، خَلَقَكَ اللهُ بِيَدِهِ، وَنَفَخَ فِيكَ مِنْ رُوحِهِ، وَأَمَرَ الْمَلَائِكَةَ فَسَجَدُوا لَكَ، اشْفَعْ لَنَا إِلَى رَبِّكَ، أَلَا تَرَى إِلَى مَا نَحْنُ فِيهِ؟ أَلَا تَرَى إِلَى مَا قَدْ بَلَغَنَا؟ فَيَقُولُ آدَمُ: إِنَّ رَبِّي غَضِبَ الْيَوْمَ غَضَبًا لَمْ يَغْضَبْ قَبْلَهُ مِثْلَهُ، وَلَنْ يَغْضَبَ بَعْدَهُ مِثْلَهُ، وَإِنَّهُ نَهَانِي عَنِ الشَّجَرَةِ فَعَصَيْتُهُ نَفْسِي نَفْسِي، اذْهَبُوا إِلَى غَيْرِي، اذْهَبُوا إِلَى نُوحٍ. فَيَأْتُونَ نُوحًا، فَيَقُولُونَ: يَا نُوحُ، أَنْتَ أَوَّلُ الرُّسُلِ إِلَى الْأَرْضِ، وَسَمَّاكَ اللهُ عَبْدًا شَكُورًا، اشْفَعْ لَنَا إِلَى رَبِّكَ، أَلَا تَرَى مَا نَحْنُ فِيهِ؟ أَلَا تَرَى مَا قَدْ بَلَغَنَا؟ فَيَقُولُ لَهُمْ: إِنَّ رَبِّي قَدْ غَضِبَ الْيَوْمَ غَضَبًا لَمْ يَغْضَبْ قَبْلَهُ مِثْلَهُ، وَلَنْ يَغْضَبَ بَعْدَهُ مِثْلَهُ، وَإِنَّهُ قَدْ كَانَتْ لِي دَعْوَةٌ دَعَوْتُ بِهَا عَلَى قَوْمِي، نَفْسِي نَفْسِي، اذْهَبُوا إِلَى إِبْرَاهِيمَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فَيَأْتُونَ إِبْرَاهِيمَ، فَيَقُولُونَ: أَنْتَ نَبِيُّ اللهِ وَخَلِيلُهُ مِنْ أَهْلِ الْأَرْضِ، اشْفَعْ لَنَا إِلَى رَبِّكَ، أَلَا تَرَى إِلَى مَا نَحْنُ فِيهِ؟ أَلَا تَرَى إِلَى مَا قَدْ بَلَغَنَا؟ فَيَقُولُ لَهُمْ إِبْرَاهِيمُ: إِنَّ رَبِّي قَدْ غَضِبَ الْيَوْمَ غَضَبًا لَمْ يَغْضَبْ قَبْلَهُ مِثْلَهُ، وَلَا يَغْضَبُ بَعْدَهُ مِثْلَهُ، وَذَكَرَ كَذِبَاتِهِ، نَفْسِي نَفْسِي، اذْهَبُوا إِلَى غَيْرِي، اذْهَبُوا إِلَى مُوسَى. فَيَأْتُونَ مُوسَى صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَيَقُولُونَ: يَا مُوسَى، أَنْتَ رَسُولُ اللهِ فَضَّلَكَ اللهُ بِرِسَالَاتِهِ، وَبِتَكْلِيمِهِ عَلَى النَّاسِ، اشْفَعْ لَنَا إِلَى رَبِّكَ، أَلَا تَرَى إِلَى مَا نَحْنُ فِيهِ؟ أَلَا تَرَى مَا قَدْ بَلَغَنَا؟ فَيَقُولُ لَهُمْ مُوسَى صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ رَبِّي قَدْ غَضِبَ الْيَوْمَ غَضَبًا لَمْ يَغْضَبْ قَبْلَهُ مِثْلَهُ، وَلَنْ يَغْضَبَ بَعْدَهُ مِثْلَهُ، وَإِنِّي قَتَلْتُ نَفْسًا لَمْ أُومَرْ بِقَتْلِهَا، نَفْسِي نَفْسِي، اذْهَبُوا إِلَى عِيسَى صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فَيَأْتُونَ عِيسَى، فَيَقُولُونَ: يَا عِيسَى أَنْتَ رَسُولُ اللهِ، وَكَلَّمْتَ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ، وَكَلِمَةٌ مِنْهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ، وَرُوحٌ مِنْهُ، فَاشْفَعْ لَنَا إِلَى رَبِّكَ، أَلَا تَرَى مَا نَحْنُ فِيهِ؟ أَلَا تَرَى مَا قَدْ بَلَغَنَا؟ فَيَقُولُ لَهُمْ عِيسَى صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ رَبِّي قَدْ غَضِبَ الْيَوْمَ غَضَبًا لَمْ يَغْضَبْ قَبْلَهُ مِثْلَهُ، وَلَنْ يَغْضَبَ بَعْدَهُ مِثْلَهُ، وَلَمْ يَذْكُرْ لَهُ ذَنْبًا، نَفْسِي نَفْسِي، اذْهَبُوا إِلَى غَيْرِي، اذْهَبُوا إِلَى مُحَمَّدٍ؛ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ. ـ وَفي رِوَايَةٍ لَهُمَا: «وَلَكِنِ ائْتُوا مُحَمَّدًا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، عَبْدًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبهِ وَمَا تَأَخَّرَ». وَجَاءَ في رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ، عَنْ جَابِرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: «فَيُؤتَى عِيسَى، فَيَقُولُ: لَسْتُ لَهَا، وَلَكِنْ عَلَيْكُمْ بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ». وَفي رِوَايَةٍ لَهُمَا عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: فَيَقُولُ عِيسَى: لَسْتُ هُنَاكُمْ، وَلَكِنِ ائْتُوا مُحَمَّدًا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَبْدًا غَفَرَ اللهُ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ وَمَا تَأَخَّرَ. وَفي رِوَايَةٍ لِأَحْمَدَ وَالنَّسَائِيِّ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا: فَيَقُولُ عِيسَى: إِنِّي لَسْتُ هُنَاكُمْ، إِنِّي اتُّخِذْتُ إِلَهًا مِنْ دُونِ اللهِ. وَفي رِوَايَةٍ لِأَحْمَدَ أَنَّ كُلَّ نَبِيٍّ يَقُولُ: وَإِنَّهُ لَا يُهِمُّنِي الْيَوْمَ إِلا نَفْسِي ـ مِنْ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ ـ. وَفي حَدِيثِ أَنَسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ عِنْدَ سَعِيدِ بْنِ مَنْصُورٍ نَحْوَهُ، وَزَادَ، فَقَالَ آدَمُ فَمَنْ بَعْدَهُ: وَأَنْ يُغْفَرَ لِيَ اليَوْمَ حَسْبِي ـ. «فَيَأْتُونِي فَيَقُولُونَ: يَا مُحَمَّدُ، أَنْتَ رَسُولُ اللهِ، وَخَاتَمُ الْأَنْبِيَاءِ، وَغَفَرَ اللهُ لَكَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ، وَمَا تَأَخَّرَ، اشْفَعْ لَنَا إِلَى رَبِّكَ، أَلَا تَرَى مَا نَحْنُ فِيهِ؟ أَلَا تَرَى مَا قَدْ بَلَغَنَا؟ فَأَنْطَلِقُ، فَآتِي تَحْتَ الْعَرْشِ، فَأَقَعُ سَاجِدًا لِرَبِّي، ثُمَّ يَفْتَحُ اللهُ عَلَيَّ وَيُلْهِمُنِي مِنْ مَحَامِدِهِ، وَحُسْنِ الثَّنَاءِ عَلَيْهِ شَيْئًا لَمْ يَفْتَحْهُ لِأَحَدٍ قَبْلِي». وَفي رِوَايَةٍ للبُخَارِيِّ: وَيُلْهِمُنِي مَحَامِدَ أَحْمَدُهُ بِهَا لَا تَحْضُرُنِي الآنَ، فَأَحْمَدُهُ بِتِلْكَ المَحَامِدِ، وَأَخِرُّ لَهُ سَاجِدًا، فَيَقُولُ: يَا مُحَمَّدُ ارْفَعْ رَأْسَكَ، وَقُلْ يُسْمَعْ لَكَ، وَسَلْ تُعْطَ، وَاشْفَعْ تُشَفَّعْ. فَأَقُولُ: يَا رَبِّ، أُمَّتِي أُمَّتِي. فَيُقَالُ: يَا مُحَمَّدُ، أَدْخِل الْجَنَّةَ مِنْ أُمَّتِكَ مَنْ لَا حِسَابَ عَلَيْهِ مِنَ الْبَابِ الْأَيْمَنِ مِنْ أَبْوَابِ الْجَنَّةِ، وَهُمْ شُرَكَاءُ النَّاسِ فِيمَا سِوَى ذَلِكَ مِنَ الْأَبْوَابِ». قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ، إِنَّ مَا بَيْنَ الْمِصْرَاعَيْنِ مِنْ مَصَارِيعِ الْجَنَّةِ لَكَمَا بَيْنَ مَكَّةَ وَهَجَرٍ، أَوْ كَمَا بَيْنَ مَكَّةَ وَبُصْرَى». وَرَوَى الشَّيْخَانِ عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «يَجْمَعُ اللهُ النَّاسَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَيَهْتَمُّونَ لِذَلِكَ». وَفي رِوَايَةٍ: «فَيُلْهَمُونَ لِذَلِكَ، فَيَقُولُونَ: لَوِ اسْتَشْفَعْنَا عَلَى رَبِّنَا حَتَّى يُرِيحَنَا مِنْ مَكَانِنَا هَذَا». قَالَ: فَيَأْتُونَ آدَمَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَيَقُولُونَ: أَنْتَ آدَمُ، أَبُو الْخَلْقِ، خَلَقَكَ اللهُ بِيَدِهِ، وَنَفَخَ فِيكَ مِنْ رُوحِهِ، وَأَمَرَ الْمَلَائِكَةَ فَسَجَدُوا لَكَ، اشْفَعْ لَنَا عِنْدَ رَبِّكَ حَتَّى يُرِيحَنَا مِنْ مَكَانِنَا هَذَا. فَيَقُولُ: لَسْتُ هُنَاكُمْ، فَيَذْكُرُ خَطِيئَتَهُ الَّتِي أَصَابَ، فَيَسْتَحْيِي رَبَّهُ مِنْهَا، وَلَكِنِ ائْتُوا نُوحًا أَوَّلَ رَسُولٍ بَعَثَهُ اللهُ. قَالَ: فَيَأْتُونَ نُوحًا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَيَقُولُ: لَسْتُ هُنَاكُمْ، فَيَذْكُرُ خَطِيئَتَهُ الَّتِي أَصَابَ، فَيَسْتَحْيِي رَبَّهُ مِنْهَا، وَلَكِنِ ائْتُوا إِبْرَاهِيمَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الَّذِي اتَّخَذَهُ اللهُ خَلِيلًا. فَيَأْتُونَ إِبْرَاهِيمَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَيَقُولُ: لَسْتُ هُنَاكُمْ، وَيَذْكُرُ خَطِيئَتَهُ الَّتِي أَصَابَ، فَيَسْتَحْيِي رَبَّهُ مِنْهَا، وَلَكِنِ ائْتُوا مُوسَى صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، الَّذِي كَلَّمَهُ اللهُ وَأَعْطَاهُ التَّوْرَاةَ. قَالَ: فَيَأْتُونَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَيَقُولُ: لَسْتُ هُنَاكُمْ، وَيَذْكُرُ خَطِيئَتَهُ الَّتِي أَصَابَ، فَيَسْتَحْيِي رَبَّهُ مِنْهَا، وَلَكِنِ ائْتُوا عِيسَى رُوحَ اللهِ وَكَلِمَتَهُ. فَيَأْتُونَ عِيسَى رُوحَ اللهِ وَكَلِمَتَهُ، فَيَقُولُ: لَسْتُ هُنَاكُمْ، وَلَكِنِ ائْتُوا مُحَمَّدًا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَبْدًا قَدْ غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ وَمَا تَأَخَّرَ. قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «فَيَأْتُونِي فَأَسْتَأْذِنُ عَلَى رَبِّي، فَيُؤْذَنُ لِي، فَإِذَا أَنَا رَأَيْتُهُ وَقَعْتُ سَاجِدًا، فَيَدَعُنِي مَا شَاءَ اللهُ، فَيُقَالُ: يَا مُحَمَّدُ، ارْفَعْ رَأْسَكَ، قُلْ تُسْمَعْ، سَلْ تُعْطَهْ، اشْفَعْ تُشَفَّعْ، فَأَرْفَعُ رَأْسِي، فَأَحْمَدُ رَبِّي بِتَحْمِيدٍ يُعَلِّمُنِيهِ رَبِّي، ثُمَّ أَشْفَعُ فَيَحُدُّ لِي حَدًّا، فَأُخْرِجُهُمْ مِنَ النَّارِ، وَأُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ، ثُمَّ أَعُودُ فَأَقَعُ سَاجِدًا، فَيَدَعُنِي مَا شَاءَ اللهُ أَنْ يَدَعَنِي، ثُمَّ يُقَالُ: ارْفَعْ يَا مُحَمَّدُ، قُلْ تُسْمَعْ، سَلْ تُعْطَهْ، اشْفَعْ تُشَفَّعْ، فَأَرْفَعُ رَأْسِي، فَأَحْمَدُ رَبِّي بِتَحْمِيدٍ يُعَلِّمُنِيهِ، ثُمَّ أَشْفَعُ فَيَحُدُّ لِي حَدًّا، فَأُخْرِجَهُمْ مِنَ النَّارِ وَأُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ». قَالَ الرَّاوِي: «فَلَا أَدْرِي فِي الثَّالِثَةِ أَوْ فِي الرَّابِعَةِ ـ قَالَ: فَأَقُولُ: يَا رَبِّ، مَا بَقِيَ فِي النَّارِ إِلَّا مَنْ حَبَسَهُ الْقُرْآنُ» أَيْ وَجَبَ عَلَيْهِ الْخُلُودُ. وَقَدْ يُشْكِلُ عَلَى الإِنْسَانِ أَنَّ أَوَّلَ هَذِهِ الأَحَادِيثِ وَأَمْثَالَهَا جَاءَتْ في سِيَاقِ الشَّفَاعَةِ العَامَّةِ، لِإِنْقَاذِ جَمِيعِ أَهْلِ المَوْقِفِ، وَأَنَّ آخِرَهَا جَاءَ في سِيَاقِ الشَّفَاعَاتِ الخَاصَّةِ بِمَنْ لَا حِسَابَ عَلَيْهِ، وَمِنْهَا الشَّفَاعَةُ بِأَهْلِ الذُّنُوبِ، كَمَا تَقَدَّمَ في رِوَايَةِ الشَّيْخَيْنِ. وَالجَوَابُ عَلَى ذَلِكَ كَمَا قَالَهُ الشَّيْخُ أَحْمَدُ بْنُ نَصْرٍ الدَّاوُودِيُّ في شَرْحِهِ عَلَى البُخَارِيِّ: إِنَّ هَذَا مِنْ بَابِ إِدْخَالِ حَدِيثٍ في حَدِيثٍ آخَرَ، وَذَلِكَ أَنَّ أَوَّلَ الحَدِيثِ ذَكَرَ الشَّفَاعَةَ في إِرَاحَةِ الخَلَائِقِ مِنْ أَهْوَالِ المَوْقِفِ، ثُمَّ بَعْدَ التَّحَوُّلِ عَنِ المَوْقِفِ وَانْتِقَالِهِمْ للحِسَابِ وَالمِيزَانِ وَمَا هُنَالِكَ، جَاءَتِ الشَّفَاعَاتُ الخَاصَّةُ بِأَنْوَاعِهَا. وَقَدْ أَجَابَ عَنْ ذَلِكَ أَيْضًا الإِمَامُ النَّوَوِيُّ رَحِمَهُ اللهُ تعالى وَقَبْلَهُ القَاضِي عِيَاضٌ في شَرْحِهِمَا لِمُسْلِمٍ كَمَا نَبَّهَ إِلَيْهِ، وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ مَا جَاءَ في رِوَايَةِ مُسْنَدِ البَزَّارِ: قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «فَأَرْفَعُ رَأْسِي ـ أَيْ: مِنْ ذَلِكَ السُّجُودِ الطَّوِيلِ تَحْتَ العَرْشِ ـ فَأَقُولُ: يَا رَبِّ عَجِّلْ عَلَى الخَلْقِ الحِسَابَ». فَهُوَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ يَسْأَلُ أَوَّلًا تَعْجِيلَ الحِسَابِ عَلَى كَافَّةِ الخَلْقِ، ثُمَّ بَعْدَ التَّحَوُّلِ مِنَ المَوْقِفِ تَأْتِي الشَّفَاعَةُ الخَاصَّةُ. ** ** ** تاريخ الكلمة: الخميس: 19/محرم/1446هـ، الموافق: 25/ تموز / 2024م |
|
جميع الحقوق محفوظة © 2025 https://www.naasan.net/print.ph/ |