طباعة |
الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:
أولاً: يقول الله تبارك وتعالى: {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ حِلٌّ لَّكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلُّ لَّهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ وَلاَ مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ}. فالله سبحانه وتعالى أباح نكاح الكتابيات للمسلم؛ والكتابي من النصارى يقول: عيسى ابن الله ـ والعياذ بالله تعالى ـ، ومع قوله هذا لم ينفِ الله سبحانه وتعالى عنه صفة الكتابي، مع أنه أثبت كفره، فقال تعالى: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُواْ اللّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَن يُشْرِكْ بِاللّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللّهُ عَلَيهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَار * لَّقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللّهَ ثَالِثُ ثَلاَثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَـهٍ إِلاَّ إِلَـهٌ وَاحِدٌ وَإِن لَّمْ يَنتَهُواْ عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيم * أَفَلاَ يَتُوبُونَ إِلَى اللّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيم * مَّا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلاَنِ الطَّعَامَ انظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الآيَاتِ ثُمَّ انظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُون * قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللّهِ مَا لاَ يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلاَ نَفْعًا وَاللّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيم * قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لاَ تَغْلُواْ فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلاَ تَتَّبِعُواْ أَهْوَاء قَوْمٍ قَدْ ضَلُّواْ مِن قَبْلُ وَأَضَلُّواْ كَثِيرًا وَضَلُّواْ عَن سَوَاء السَّبِيل}.
فالله تبارك وتعالى أثبت كفرهم بقولهم: {إِنَّ اللّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ}. وبقولهم: {إِنَّ اللّهَ ثَالِثُ ثَلاَثَةٍ}. ومع ذلك ما نفى عنهم صفة الكتاب، فقال: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لاَ تَغْلُواْ فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ}.
ثانياً: ذهب جمهور الفقهاء من المسلمين إلى حلِّ نكاح الكتابية، ولو كانت عقيدتها فاسدة، لوضوح الآية السابقة، وخالف في ذلك بعض المجتهدين فلم يرَ نكاح الكتابية مباحاً، إذا كانت تقول: ربها عيسى والعياذ بالله تعالى.
وهذا ما ثبت عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، كما روى البخاري: (أنه كَانَ إِذَا سُئِلَ عَنْ نِكَاحِ النَّصْرَانِيَّةِ وَالْيَهُودِيَّةِ قَالَ: إِنَّ اللهَ حَرَّمَ الْمُشْرِكَاتِ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ، يعني ـ {وَلاَ تَنكِحُواْ الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ} ـ وَلا أَعْلَمُ مِنْ الإِشْرَاكِ شَيْئًا أَكْبَرَ مِنْ أَنْ تَقُولَ الْمَرْأَةُ رَبُّهَا عِيسَى، وَهُوَ عَبْدٌ مِنْ عِبَادِ اللهِ). والحقُّ مع الجمهور. والله تعالى أعلم.
وبناء على ذلك:
فعند جمهور الفقهاء نكاح المرأة النصرانية مباح، ولكن بشروط:
أولاً: التأكُّد من أنها نصرانية، وليست علمانية لا تدين بدين سماوي، لأن المرأة العلمانية التي لا تدين بدين سماوي لا يحلُّ نكاحها.
ثانياً: التأكُّد من إحصانها، بحيث تكون عفيفة، وذلك لقوله تعالى: {مُحْصَنَاتٍ غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ وَلاَ مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ}. أما التي اشتُهِرَت بالزنى والعياذ بالله تعالى، واشتهرت باتخاذ الأصحاب والأصدقاء، فلا يحلُّ نكاحها؛ لقوله تعالى: {وَالزَّانِيَةُ لاَ يَنكِحُهَا إِلاَّ زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِين}.
جاء رجل إلى الحسن البصري رحمه الله تعالى يسأله: أيتزوج الرجل المرأة من أهل الكتاب؟ قال: ما له ولأهل الكتاب، وقد أكثر الله المسلمات! فإن كان لا بد فاعلاً فليعمد إليها حصاناً غير مسافحة. قال الرجل: وما المسافحة؟ قال: هي التي إذا لمح الرجل إليها بعينه اتبعته. اهـ.
ولا أدري هل المحصنات من الكتابيات ـ وخاصة في المجتمع الغربي ـ أكثر أم المسافحات المتخذات أخدان؟
ثالثاً: ألا تكون النصرانية محاربة، فإن كانت محاربة فلا يحل نكاحها؛ لقوله تعالى: {قَاتِلُواْ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَلاَ بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلاَ يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَلاَ يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُواْ الْجِزْيَةَ عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُون}. فإن صارت ذميَّة حلَّ نكاحها، وإلا فلا.
وعليه فلا يحلُّ نكاح اليهودية اليوم، ما دامت الحرب قائمة بين المسلمين واليهود.
رابعاً: ألا يكون هناك ضرر بالنساء المسلمات، لقوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم: (لا ضَرَرَ وَلا ضِرَارَ) رواه الإمام أحمد عن ابن عباس رضي الله عنهما. فإن وُجِدَ الضرر بالمسلمات فلا يحلُّ نكاح الكتابيات، وخاصة ممن يعيش في بلاد الغرب، حيث يمثِّلون أقليات محدودة، وهذا يضرُّ بالمرأة المسلمة، إما بانحرافها لا قدَّر الله، أو بزواجها من غير المسلمين لا قدَّر الله تعالى، وإما أن تعيش في كبت دائم تحرم الحياة الزوجية ونعمة الأمومة لا قدر الله تعالى.
روى الإمام محمد بن الحسن في كتابه الآثار: أن سيدنا عمر رضي الله عنه بلغه أن حذيفة بن اليمان تزوج وهو بالمدائن امرأة يهودية، فكتب إليه عمر: أعزم عليك ألا تضع كتابي هذا حتى تخلي سبيلها، فإني أخاف أن يقتدي بك المسلمون، فيختاروا نساء أهل الذمَّة لجمالهن، وكفى بذلك فتنة لنساء المسلمين.
ووصية سيدنا رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم يجب أن لا تغيب عن سمع المؤمن الحريص على تكثير نسل هذه الأمة: روى البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم قال: (تُنْكَحُ الْمَرْأَةُ لأَرْبَعٍ: لِمَالِهَا، وَلِحَسَبِهَا، وَجَمَالِهَا، وَلِدِينِهَا، فَاظْفَرْ بِذَاتِ الدِّينِ تَرِبَتْ يَدَاكَ). هذا، والله تعالى أعلم.
جميع الحقوق محفوظة © 2024 https://www.naasan.net/print.ph/ |