طباعة |
الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:
فقد ذهب جمهور المفسرين إلى أن هذه الرؤيا هي حادثة الإسراء والمعراج، لما ذكره البخاري: عن ابن عباس رَضِيَ اللهُ عنهُما أنه في قوله تعالى:{وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ}. قال: هي رُؤْيا عينٍ أُرِيَهَا رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلةَ أُسْرِيَ به إلى بيت المقدس.
وقد يفترض البعض ويقول: هذا الجواب يجعلنا في إشكال، لأن الرؤية البصرية لا يقال عنها رؤيا، بل رؤية، وأما المنامية فيقال عنها رؤيا ولا يقال رؤية. ونحن نعلم بأن حادثة الإسراء والمعراج ما كانت منامية، بل يقظة، فلماذا قال ربنا جل جلاله: {وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا}، ولم يقل وما جعلنا الرؤية؟ بمعنى لماذا عدل عن الرؤية البصرية إلى الرؤيا المنامية؟
الجواب: الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:
يقال في اللغة العربية: رأيته بعيني رؤية ورؤيا، أي في لغة العرب تطلق كلمة الرؤيا على المنامية والبصرية، بدليل قول شاعرهم الذي فرح برؤية صيد ثمين:
فكَبَّرَ للرُّؤْيَا وهَاشَ فُؤَادُه *** وبَشَّرَ نَفْساً كان قَبْلُ يَلُومُهَا
أي قال: الله أكبر حينما رأى الصيد الثمين، فعبر بالرؤيا المنامية عن الرؤية البصرية.
والحق سبحانه وتعالى ذكر كلمة الرؤيا المنامية في حادثة الإسراء والمعراج ليدلَّ على أنها شيء غريب وعجيب كمن يرى حدثاً عجيباً فيقول: لقد رأيت رؤيا كأني في المنام.
ومن ناحية أخرى لو أن الإسراء والمعراج كان رؤيا منامية أكانت توجد فتنة بين الناس؟ هب لو أن قائلاً قال لنا: رأيت الليلة أني ذهبت إلى أقاصي الدنيا، ودرت حول الأرض، ثم رأيت نفسي أني على سطح القمر، ثم رجعت إلى بيتي، هل من أحد ينكر عليه؟ هل من أحد يكذِّبه؟
لذلك كان من حكمة الله تعالى أن يختبر القوم بهذا الحدث، ولعظمته جاء بلفظ الرؤيا المنامية، حتى يميِّز الصادق من الكاذب، والمؤمن من الكافر، والمصدِّق من الجاحد، وحتى لا يبقى في ساحة المؤمنين الذين سيحملون رسالة القرآن العظيم إلا الصادق.
ولذلك تميَّز الصدِّيق رضي الله عنه عن غيره بكلمته المشهورة: (إن كان قال ذلك لقد صدق) رواه عبد الرزاق والطبري.
وقال بعض المفسرين: هذه الرؤيا هي المشار إليها بقوله تعالى: {لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لَا تَخَافُونَ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذَلِكَ فَتْحاً قَرِيباً} [الفتح: 27]. فقد وعد الله رسوله صلى الله عليه وسلم والصحابةَ أن يدخلوا المسجد الحرام، ولكن عندما مُنِعوا من الدخول عام الحديبية، كان هذا المنع فتنةً بين المسلمين، حتى قال سيدنا عمر رضي الله عنه لرسول الله صلى الله عليه وسلم: (ألستَ نبيَّ الله حقاً)؟ قال: «بلى»، قال: (ألسنا على الحقِّ وعدوُّنا على الباطل)؟ قال: «بلى»، قال: (فلِمَ نعطي الدَّنيَّة في ديننا إذاً)؟ قال: «إني رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولستُ أعصيه، وهو ناصري»، قال: (أوليس كنت تحدِّثنا أنا سنأتي البيت فنطوف به)؟ قال: «بلى، فأخبرتك أنا نأتيه العامَ»؟ قال: (لا)، قال: «فإنك آتيه ومُطَّوِّف به» رواه البخاري. وقد تمَّ هذا الأمر، والحمد لله الذي لا يُخلَف وعدُهُ.
ثم بعد ذلك بيَّن الله تعالى لهم الحكمة من عدم دخول مكة عام الحديبية، وذلك بقوله تعالى: {وَلَوْلَا رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُؤْمِنَاتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَئُوهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ لِيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَاباً أَلِيماً } [الفتح: 25]. ولكن هذا القول ضعيف، لأن حدث الحديبية كان بعد هجرة النبي صلى الله عليه وسلم، أما سورة الإسراء فهي مكيَّة، وهذا يؤكد على أن المقصود من الرؤيا حادثة الإسراء والمعراج، وعدل عن لفظ الرؤية البصرية إلى الرؤيا المنامية لعظمة الحدث. هذا، والله تعالى أعلم.
أما قوله تعالى: {وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ} فيعني:
وما جعلنا الشجرة الملعونة في القرآن إلا فتنة للناس أيضاً، وإن كانت الفتنة في الإسراء والمعراج كامنة في الزمن الذي حدثت فيه، فهي في الشجرة كامنة في أنها تخرج من أصل الجحيم في قعر جهنم، ومن المعلوم أن الشجر نبات لا يعيش إلا بالماء والري، فكيف تكون الشجرة في جهنم؟
ومن هنا كانت الشجرة فتنةً تمحِّص إيمان الناس، قال تعالى: {أَذَلِكَ خَيْرٌ نُزُلًا أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ * إِنَّا جَعَلْنَاهَا فِتْنَةً لِلظَّالِمِينَ * إِنَّهَا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ} [الصافات: 62 ـ 64]. فالشجرة الملعونة في القرآن هي شجرة الزقوم التي تنبت في أصل الجحيم، فقال ضعاف الإيمان: النار تحرق الشجرة فكيف تنبتها؟ أخرج البيهقي عن ابن عباس رَضِيَ اللهُ عنهُما قال: لما ذكر الله الزقوم خوَّف به هذا الحي من قريش، قال أبو جهل: هل تدرون ما هذا الزقوم الذي يخوِّفكم به محمد؟ قالوا: لا، قال: الثريد بالزُبْد، أما لئن أمكننا منها لَنَزَّقَمَنَّها زقماً، فنزلت: {وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ وَنُخَوِّفُهُمْ فَمَا يَزِيدُهُمْ إِلَّا طُغْيَاناً كَبِيراً} [الإسراء: 60]. وأنزل: {إِنَّ شَجَرَتَ الزَّقُّومِ * طَعَامُ الْأَثِيمِ} [الدخان: 43 ـ 44].
وقد يكون هناك تساؤل، ما ذنب الشجرة حتى تُلعن مع أنها آية ومعجزة تدلُّ على قدرة الله تعالى؟
الجواب عن هذا: فيه وجوه:
الأول: المراد من اللعن لها لعن آكلها، لأنه لا يأكل منها إلا الأثيم، كما قال تعالى: {إِنَّ شَجَرَتَ الزَّقُّومِ * طَعَامُ الْأَثِيمِ}. والأثيم ملعون، لأن الشجرة لا ذنب لها حتى تُلعن على الحقيقة، وإنما وُصفت بلعن أصحابها على المجاز.
الثاني: العرب تقول لكل طعام مكروه ضار إنه ملعون.
الثالث: أن اللعن في أصل اللغة هو التبعيد، فلما كانت هذه الشجرة الملعونة في القرآن مبعدة عن جميع صفات الخير سُمِّيت ملعونة، وقد وصفها الله تعالى في القرآن العظيم بقوله: {إِنَّهَا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ}، فإنه أبعد مكان من الرحمة.
الرابع: أخرج ابن المنذر عن ابن عباس رَضِيَ اللهُ عنهُما في قوله: {وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ} قال: ملعونة لقوله تعالى: {طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُءُوسُ الشَّيَاطِينِ} [الصافات: 65]، والشياطين ملعونون. هذا، والله تعالى أعلم.
جميع الحقوق محفوظة © 2024 https://www.naasan.net/print.ph/ |